إسبانيا تناقش مستقبل الملكية

11 يناير 2015

ملك إسبانيا ووالده خوان كارلوس في قاعدة جوية (أكتوبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

انتعش النقاش العمومي من جديد، في إسبانيا، حول الملكية ومستقبلها، بعد الخطاب الذي ألقاه، قبل أيام، العاهل الإسباني، فيليبي السادس، بمناسبة أعياد الميلاد. واعتبره كثيرون خطاباً جاء في وقته، بالنظر للتحديات التي أصبحت تواجهها هذه المؤسسة، فيما يخص مستقبلها السياسي، في مجتمع تتسم منظومته بتحول يطال مختلف المجالات. وقد تطرق الملك، الذي تولى العرش، في يونيو/حزيران الماضي، بعد تنازل والده خوان كارلوس، إلى قضايا حيوية، أهمها "ضرورة استئصال الفساد من جذوره"، وهو ما لاقى ترحيباً لافتاً من الطبقة السياسية، بمختلف مكوناتها، وقطاع واسع من الرأي العام.
وما كان لحديث الملك عن مكافحة الفساد أولوية قصوى أن يحظى بهذا الاهتمام، لولا سلسلة فضائح لاحقت عائلته منذ سنوات، منها تورط إحدى شقيقاته وزوجها في قضايا فساد كبرى، مطروحة الآن أمام القضاء الإسباني، للبت فيها. وهو ما كان له أثره الواضح في تدهور شعبية العائلة لدى شرائح واسعة من الإسبان، إلى درجة دفعت بتنظيمات سياسية يسارية إلى طرح فكرة تنظيم استفتاء بخصوص مستقبل الملكية مؤسسة سياسية، خصوصاً في ظل تزايد الحديث عن كلفتها المالية الكبيرة. بل أكثر من ذلك، طالب بعضهم بعودة الحكم الجمهوري الذي عرفته إسبانيا، خلال بعض فترات تاريخها الحديث، كانت آخرها الجمهورية الثانية بين سنتي 1931 و1939.
دفع هذا الوضع المحرج الذي وجدت الملكية نفسها فيه بالملك السابق، خوان كارلوس، خلال السنة المنصرمة إلى اتخاذ خطوة استباقية، بتنازله عن العرش لفائدة نجله فيليبي. وهي خطوة أربكت، إلى حد ما، حسابات المناوئين لهذه المؤسسة، خصوصا بعد اتخاذ الملك الجديد إجراءات انصبت، في مجملها، على تحديثها وتصحيح صورتها لدى الرأي العام، بما يعيد الاعتبار لشرعيتها السياسية والتاريخية، ويجعلها أكثر مواكبة للتحولات الكبرى التي تخترق النسيج الاجتماعي الإسباني. إضافة إلى ذلك، عملت الملكية على إعادة تسليط الضوء على دورها التاريخي الذي لعبته في مسار الانتقال الديمقراطي خلال النصف الثاني من السبعينيات، ومساهمتها، مع فاعلين آخرين، في إقناع اليمين الفرنكوي المحافظ واليسار والمؤسسة العسكرية بضرورة التخلص من رواسب الحرب الأهلية، والمشاركة في بناء دولة مدنية وديمقراطية حديثة، قائمة على سلطة المؤسسات واحترام سلطة القانون. وحسب محللين إسبان، تبدأ أهمية خطاب الملك من اختلافه عن خطابات والده التي اتسمت، خصوصا في السنوات الأخيرة، بعقمها وابتعادها عن الواقع، وعدم تفاعلها مع القضايا الكبرى التي تؤرق المجتمع الإسباني، بمختلف فئاته ومكوناته. في ضوء ذلك، كان هذا الخطاب واضحاً وجريئاً في تشخيصه جوانب من الواقع الاقتصادي والسياسي الذي تعيشه حاليا إسبانيا، خصوصا فيما يتعلق بمكافحة الفساد واستغلال النفوذ، وضرورة الحفاظ على دولة الرفاه وصيانة الوحدة الوطنية. فاتساع الهوة بين النخب السياسية وتطلعات الشارع، وفقدان الثقة في مؤسسات الدولة، بفعل الفساد المستشري في أكثر من قطاع، وتداعيات الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعرفها البلاد منذ سنوات، وتراجع مستوى معيشة الطبقات الوسطى التي شكلت القاعدة الاجتماعية الأساسية للديمقراطية الإسبانية، والخطر الذي يتهدد وحدة البلاد في ظل محاولات إقليم كاطالونيا المتكررة للانفصال عن حكومة مدريد، كلها عوامل تجعل الملكية أمام رهان حاسم، لاختبار مدى قدرتها على تجديد هياكلها وخطابها السياسي، بما يضمن استمراريتها في أفق تعزيز المشروع الوطني الإسباني بمختلف أبعاده.
وقد لعبت هذه المؤسسة دوراً تاريخياً في تحول إسبانيا نحو الديمقراطية، واعتمادها نظام الملكية البرلمانية. فمباشرةً، بعد وفاة الجنرال فرانكو في نوفمبر 1975، وتولي خوان كارلوس العرش، تنازل الأخير عن جزء كبير من سلطاته وصلاحياته التي ورثها عن فرانكو، وانخرط، إلى جانب النخب الإسبانية، على اختلاف انتماءاتها السياسية والأيديولوجية، في مسار لتحول هادئ ومتوافق عليه من الديكتاتورية إلى الديمقراطية. كما قام بدور كبير في إقناع

القوى اليمينية المحافظة، والمتغلغلة في الإدارة والقضاء والأمن والجيش، بأهمية إنجاح هذا التحول، واستكمال أسسه المؤسساتية والدستورية. وهو الأمر الذي ساهم، بشكل كبير، في صدور قانون الإصلاح السياسي سنة 1976، والدستور سنة 1978 الذي كرس، بالملموس، توافق الملكية والنخب والجيش على نظام الملكية البرلمانية، حيث يسود الملك ولا يحكم. وبذلك، أصبح شكل الحكم هذا في إسبانيا بمثابة تسوية سياسية واجتماعية كبرى بين قوى اليمين التقليدي المحافظ وقوى اليسار على اختلاف توجهاتها. وعلى الرغم من صعوباتٍ واجهت عملية التحول هذه، والتي كانت أبرزها المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها أحد ضباط الجيش في عام 1981، إلا أن الملكية استطاعت أن تساهم في تثبيت شرعيتها التي أضحت، بمرور السنوات، جزءاً من شرعية المؤسسات الأخرى.
بيد أن التحولات العميقة التي عرفها المجتمع الإسباني، في العقود الثلاثة الأخيرة، ساهمت في بروز معطيات جديدة بخصوص نظرة الإسبان لهذه المؤسسة. فقد ظهرت فئات وأجيال جديدة، محكومة بإكراهات ثقافية واجتماعية مغايرة للتي كانت تعرفها إسبانيا عند بداية تحولها نحو الديمقراطية. كما أن الأزمة الاقتصادية، وتداعياتها على القطاعات الاجتماعية الحساسة، كالتشغيل والضمان الاجتماعي، وفضائح الفساد الكثيرة التي هزت الرأي العام في السنوات الأخيرة، كل ذلك أدى إلى تحول نسبي في صورتها لدى الرأي العام، خصوصاً بعد تورط أفراد منها في فضائح فساد مختلفة، هذا فضلاً عن انتعاش الخطاب الجمهوري، خصوصاً داخل أحزاب اليسار.
في ضوء ما سبق، تبدو الملكية الاسبانية، اليوم، أمام تحديات مختلفة، ليس أقلها أهمية العمل على استمرارية دورها مؤسسة مفصلية في الدولة، من خلال ضمانها للاستقرار السياسي، والتفاعل مع أسئلة وقضايا مجتمعٍ، بدأ يخترقه شعور عام بالإفلاس السياسي والاقتصادي والثقافي، لكل ما انبثق عن مرحلة التحول الديمقراطي.