الحريّة.. جدل وأسئلة

20 يناير 2015

عمل لـِ(ليسيو يالانتي)

+ الخط -

في مدينة لاهاي الهولندية، صيف 2010، سألتني صحافية، على هامش مؤتمر "حرية التعبير والإعلام الجديد"، ما معناه: لماذا استشاط المسلمون في المنطقة العربية غضباً، وخرجوا في تظاهرات للاحتجاج على رسوم كاريكاتورية نشرت في صحف دنماركية، هل لأنهم لا يقدّرون قيمة الحرية التي نعيشها هنا، أو لم يعتادوا ممارستها مثلاً؟ أجبتها: إذا كنتم تعتبرون الرسوم المسيئة نوعاً من حرية التعبير، فمن باب أولى الاحتجاجات وحملات المقاطعة للمنتجات الدنماركية، أليست شكلاً من حرية التعبير؟

أخذت الصحافية مقعدها على الجهة المقابلة في الطاولة نفسها، وبدت أكثر اهتماماً بالنقاش، مؤكدة رغبتها في معرفة تفاصيل كثيرة عن واقع المجتمعات العربية، وخصوصياتها الثقافية والأيديولوجية، ونظرتها لمفاهيم الحقوق والحريات، ودار نقاش طويل، يحضرني بعضه.

لم أعد أتذكر اسم الصحافية، لكني أتذكر أنها كانت شقراء، وتعرف معلومات عن اليمن ومصر وسورية ولبنان والسعودية. أخذت الصحافية قلماً ودفتراً صغيراً من حقيبتها، وأعادت سؤالها بطريقة أخرى: تقول إن الاحتجاجات في المنطقة العربية تشبه الرسوم، كيف وقد شهدت أعمال عنف واعتداءات؟ أجبت: شهدت أعمال عنف محدودة، قد يكون السبب ضعف الوعي بضوابط الاحتجاج السلمي وقوانينه، أو عدم اعتراف بعضهم بجدوى النضال السلمي، ويفترض أن لا تحدث أعمال عنف. بالنسبة لي كناشط أزعم الدفاع عن حقوق الإنسان، أرفض كل أعمال العنف، ولكن، هنا في الغرب لا تخلو بعض الاحتجاجات من أعمال عنف.

سألت: هل تظن أن غياب الحريات في المجتمعات العربية يولّد لدى الناس هناك إحساساً بعدم قبول هذه الحريات وممارستها، أقصد مطلق الحريات، بما في ذلك نشر رسوم عن الرسول محمد؟ أجبت: المسألة ليست على هذا النحو. هناك خصوصيات اجتماعية وثقافية لكل مجتمع، ينبغي وضعها في الاعتبار، حتى في حركة البناء المعرفي والتكويني لهذه المجتمعات، وحتى على مستوى التشريعات والقوانين التي تنظم حياتهم. والواقع السياسي والاجتماعي الذي تعيشه المجتمعات الأوروبية، اليوم، لم يأتِ هكذا دفعة واحدة، بل شهدت هذه المجتمعات ظروفاً ومراحل تاريخية متعددة. ومن جهة أخرى، المجتمعات العربية والمسلمة، على مستوى الغالبية العظمى من الناس، لا تعتبر الغرب إلا بوصفه عدواً متغطرساً، مهما ادّعى الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولهذه النظرة ربما أسباب عديدة أيديولوجية وتاريخية وسياسية، وبالتالي، الناس في مجتمعاتنا ينظرون للرسوم الدنماركية من هذه الزاوية، باعتبارها جزءاً من هذا الصراع، وليس مجرد تعبير عن رأي، بدليل أن الغرب لا يزال يساند بقوة أنظمة قمعية جاثمة منذ عقود على شعوبها في المنطقة العربية، ولا تلمس منه هذه الشعوب أي جدية في مساندة حقوقها الأساسية، وهو حق الاستقلال، فلسطين مثالاً.

سألتني: هل هذا رأيك أيضاً؟ قلتُ: ليس بالضرورة، وليس على إطلاقه، هناك أسباب موضوعية تدفع باتجاه صوابية هذا الموقف، هذا واقع المجتمع الذي نشأتُ فيه على الأقل، وأحتاج ربما إلى وقت للاطلاع على ما يدحض هذه الأفكار من واقع الممارسات اليومية للحكومات الغربية، إن كان ثمة تغيير في طريقة تعاملها مع قضايا المسلمين، حتى أتوصل إلى قناعة بخطأ هذه الأفكار أو بعضها.

لم تقتنع بالرد، على ما يبدو، وسألتني: لكن، ما هو الضرر الذي يمسّ المسلمين من نشر رسوم كاريكاتورية في صحيفة، توزع ببلد لا يرى في هذه الرسوم إلا جزءاً من مزاولة حق حرية الصحافة؟ قلتُ: وما هو الضرر، أيضاً، الذي لحق برسام كاريكاتور، أو كاتب صحافي، أيّاً كانت ديانته، أو جنسه، من شخصية تاريخية عظيمة، بشهادة مفكرين غربيين، باحترام وتقديس ملايين البشر في العالم، لماذا يقدمه رسام كاريكاتور إلى الجمهور بصورة مهينة وغير لائقة؟

قالت: لا ضرر، لكن الرسوم تتناول شخصية لم تعد على قيد الحياة، الرسول محمد مات قبل مئات السنين؟ أجبتُ: لكنه حيّ في قلوب هؤلاء الملايين.

قالت: لكن الرسوم كانت مجرد تعبير عن رأي، فلا تنطوي على تحريض مثلاً، أو اعتداء على الآخرين، أو دعوة إلى العنف؟

قلت: صحيح، لكن المسلمين يعتبرون جناب الرسول الكريم أغلى من أنفسهم، ولن يجدوا مانعاً لو أن الرسوم انتقدتهم، أو انتقدت واقعهم الذي يعيشونه من دون المساس بقدسية الرسول محمد.

قالت: لكن هذه الرسوم وغيرها آلاف الرسوم حول مختلف القضايا جزء من الحريات التي تعودنا عليها هنا في أوروبا، ولا يمكن للحكومات أن تمنعها؟

أجبتها: لكن، أليست هذه الحكومات نفسها وكل عاقل يؤمن بأن حرية الفرد تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، أليست هناك ضوابط وقيود يحددها القانون في الغرب، في ما يتعلق بممارسة الحرية، مثلاً، منع الأعمال الإباحية في الأماكن العامة؟

ردّت الصحافية: بلى، ولكن هذه الضوابط تعود إلى ضمير المجتمع نفسه؟

قلت: ومنصوص عليها في بعض القوانين أيضاً. (لم أكن متأكداً من هذه المعلومة، لكني بحثت لاحقاً، فوجدت: يحظر القانون في الدنمرك أي تهديد أو إهانة أو حط من شأن أي إنسان بصورة علنية، ولو كان شاذاً جنسياً. وفي بريطانيا، لا يزال يُعمَل بالقانون الذي يمنع سب المقدسات، وهناك أمثلة أخرى عديدة).

استطردتُ: هناك سجل حافل للحكومات الغربية من القمع والتضييق والمحاكمات طالت مؤرخين ومفكرين غربيين كثيرين، لمجرد أنهم عبّروا عن شكوكهم في الهولوكست مثلاً، أو كتبوا ضد السياسات الإسرائيلية. لماذا تلوّح حكومات غربية عديدة، دائماً، بالعصا الغليظة، "معاداة السامية"، في وجه مَن يشكك في معلومة تاريخية، أو ينتقد سياسة إسرائيل، بينما تعتبرون الإساءة إلى دين المسلمين ومقدساتهم حرية تعبير؟

حدّقت الصحافية في وجهي، قليلاً، واكتفت بهزّ رأسها، للتأكيد على اتفاقها معي في هذه النقطة، ثم تناولت سيجارتها الملفوفة، وأومأت لي بالاستمرار في الحديث.

لم أكن أستحضر حينها وقائع كثيرة وضحايا للاستشهاد على ازدواجية المعايير لدى الغرب، والانتقائية في التعاطي مع مفهوم الحرية، على الرغم من أن بعضهم لا يزال يتذكر أن الولايات المتحدة منعت، آنذاك، عرض أفلام وثائقية أعدها الصحافي البريطاني البارز، روبرت فيسك، بعنوان "جذور غضب المسلمين"، لأنها أثارت غضب اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، بسبب اتهامها إسرائيل بأنها السبب الرئيسيّ وراء نقمة المسلمين على الغرب. لم أكن أستحضر أيضاً قصة الناشر والمفكر الألماني، أرنست زينل، الذي اعتقل في كندا في فبراير/ شباط 2003، بتهمة "رفض أرقام المحرقة النازية ضد اليهود خلال الحرب العالمية الثانية"، وقبله بمدة وجيزة محاكمة المؤرخ البريطاني، ديفيد إيرفينج، لمجرد أنه شكك في ادعاء حرق ستة ملايين يهودي، نافياً صحة ادعاء غرف الغاز، وقبلهما المفكر الفرنسي، روجيه جارودي، لدحضه الادعاء نفسه في كتابه "الأساطير المؤسسة لدولة بني إسرائيل"، ومثل هؤلاء الفيلسوف الأميركي، نعوم تشومسكي، الذي تعرض لمضايقات، وأوقفت بعض مؤلفاته عن النشر، لأنها تنتقد السياسات الأميركية والإسرائيلية. وغيرهم كثير.

اكتفيتُ بالقول إنه مع إيماني العميق بالحرية، حقاً إنسانياً أصيلاً ومقدّساً وضرورة بشرية، أجدني، في المقابل، موقناً بأن إساءة استخدام هذا الحق، أو ممارسته، من دون شعور بالمسؤولية، يعدّ انتقاصاً من شأنه، وإساءة بالغة بحقه، في حين أن ممارسة هذا الحق بمسؤولية ذاتية ورقابة ضمير يعزز من حمايته، ويحول دون إثارة الجدل حوله، أو رغبات المستبدين في مصادرته، والتضييق عليه، وفرض قيود تعسفية على ممارسته.

تبادلنا الابتسامات، وانتهى اللقاء، لكننا اليوم، وبعد أربع سنوات من هذا الحوار، لا يزال رسامون يسيئون للرسول محمد، ليستيقظ العالم على فاجعة مقتل صحافيين في قلب فرنسا، بلد الحرية، يزعم القاتل أنه أقدم على فعلته ثأراً للرسول الكريم.

384D39E8-4735-4ADE-AA7F-710DE3EF69D2
محمد الأحمدي

كاتب وحقوقي يمني، ممثل منظمة الكرامة في اليمن