تونس: مناضلو الدولة وصفع المواطن

25 يناير 2015

تظاهرة في تونس العاصمة (31 أغسطس/2012/الأناضول)

+ الخط -

أثارت تصريحات مقتطفة من حوارٍ، منع بثه في الإعلام السمعي البصري التونسي، بين إعلامي وجلاد قدم نفسه باسمه الحركي "شقيف"، المستوحى من أحد المسلسلات التلفزيونية السورية التي بثت في التسعينيات، وتتغنى بأمجاد العرب الغابرة إبان خيبة حرب الخليج الأولى، ردود أفعال متباينة في الشارع العربي. يمثل شقيف في ذاكرة من شاهدوا ذلك المسلسل القسوة والبطش. هل شكل ذلك المنع اعتداء على حرية التعبير، أم تفادياً لتبجح بالتعذيب وافتخارا به؟ ربما فوّت على أجيال التونسيين الجديدة، التي لم تشهد سنوات الجمر، فرصة نادرة لمعرفة القليل مما حدث. ولا شك في أن من عارضوا المنع كانت لهم حججهم، أيضاً، باعتبار أن ذلك قد يغذي ثقافة التعذيب أو الثأر، خصوصاً وأن شقيفاً هذا ما زال يحتل موقعه الأمني، بل تمت ترقيته، واستفاد من امتيازات عديدة، على غرار كل زملائه بعد الثورة، بفضل نقاباتهم الأمنية العديدة، والتي شكلت، أحياناً، أذرعاً لشل أحكام القضاء العام، علاوة على استمرار ممارسات أمنية لا تليق بجمهورية ثانية، يتباهى أمنيوها بأنهم يشكلون أمنها الجمهوري، وقد كان شقيف يصر، في كل مرة، على أنه "مناضل دولة".

تمنحنا تونس مصادفات عجيبة، لا يستطيع القدر في أجلى حكمته أن يجمعها. لم تكد أيام معدودة تمر على تصريحات "شقيف"، حتى حدث أمام محكمة مدينة سوسة الساحلية اعتداء عون أمن، بزيه المدني، على محامٍ في رحاب المحكمة بالذات، وحين احتج زملاؤه، اكتفى بقوله: سامحني كنت أظنك مواطناً.

يستهجن بعضهم التقاط التفاصيل، ويدعو الخبراء والمختصين إلى الاهتمام بالمقولات، وتقليبها لتصبح صقيلة على ما احدودب من ظهر السماء. الديموقراطية، الدولة المدنية وغيرها من المقولات السياسية الكبرى، ليست مجردة سحابات طائرة، وإنما هي، أيضاً، تلك التفاصيل التي تؤثث حياتنا اليومية، وتنسج شرايين المعاش. هناك مدارس بأكملها في العلوم الإنسانية والاجتماعية نشأت على هذا التصور، وأساسا في الثقافة الأنجلوساكسونية: مدرسة شياكغو وباولو التو وغيرها مما تجاوزت جدران المدارج الجامعية، وجعلت من الشارع الكبير مختبراتها وورشاتها.

علينا أن نعترف بأن الجلاد شقيف ما كان ليتجرأ على الظهور، أصلاً، في وسائل الإعلام، وهو مكشوف الوجه، وأن يعترف بكل ما اقترفه، وأن يستعرض وصفات التعذيب تلك، لولا تحول النقابات الأمنية إلى قلاع حصينة، يلوذ إليها مثل هؤلاء في اللحظة الملائمة، ولولا تعطل العدالة الانتقالية التي يبدو أن صعود "نداء تونس" إلى الحكم لن يساعدها مطلقاً على استئناف عملها. وبقطع النظر عن هذا التوقيت، خلنا أن صفع المواطنين التونسيين، على الأقل أمام مرأى الناس ومسمعهم، انتهى وإلى الأبد. وهي من ممارسات كنا نتوهم أنها أوت إلى متحف الكرامة المنشود، ولكن أفقنا على ضلالات خيالاتنا. ويطرح علينا هذا الأمر أسئلة كثيرة بشأن إمكانية إنجاز انتقال ديموقراطي حقيقي، والمؤسسة الأمنية تستعيد مثل هذه الممارسات، وترسخ مثل هذه الثقافة، خصوصا إذا علمنا أن كل مشاريع إصلاح الجهاز الأمني التي قدمتها المنظمات الأممية تعطلت، فهؤلاء يعتقدون أنهم في غنى عن الإصلاح، ولا يحتاجون إلى ثقافة أمنية جمهورية جديدة.

قد نندم على هذا الخطأ الفادح الذي ارتكبناه جميعاً، حين قبلنا بتأسيس تلك النقابات الأمنية. انتظروا أن تكون الصفعة القادمة، لا قدر الله، رصاصاً وتنادي هذه النقابات بضرورة تسليح الأمنيين خارج أوقات العمل.

أوجدت صناعة الإرهاب لنا حاجة مبكرة إلى الأمن، وللآمنين حاجة ملحة إلى التسلح خارج أوقات العمل، وأحدثت للجميع رغبة في التنازل عن الحرية والكرامة في مقابل ذلك الشعور بالأمن. لم يكن ذلك مجرد تقاطع غريب للأحداث، وإنما تخطيط محكم لعودة المنظومة القديمة وبطلب شعبي ومن صناديق الاقتراع نفسها.

لا تمثل الدولة عند أمنيين كثيرين سوى غول مخيف، يشكلون قواطعه الحادة. لا يتعلق الأمر بتهويل، وإنما بتهيئة حواسنا ومشاعرنا على نحو آخر، يبدو أن سنين الاستبداد قد تخشبت وكلّست مشاعرنا، وحتى الثورة لم تفلح في إيقاظها بشكل نهائي وقاطع.

لن تسترجع هيبة الدولة معناها الحقيقي، إلا إذا احترمت المواطن، ولن يكون ذلك ممكناً إلا إذا أنشأناه على احترام ذاته، واحترام مؤسسات دولته العادلة. من يريد أن يتجنب المرور من هذا الطرق الطويل والشاق، ويرغب في قطع الطرق تقصيراً للمسالك، سيخسر الاثنين معا: دولة مهابة ومواطناً محترماً. مستعدون في تونس لتبديد مخاوفنا، لو عالجت الحكومة التي تم الإعلان عنها، أخيراً، تلك الملفات المعطلة: العدالة الانتقالية، إصلاح مؤسسات الأمن بما يتناغم مع دستور البلاد الجديد والمواثيق الدولية. حد أدنى جدير بدماء سالت من أجل ذلك كله.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.