حرب تموز 2006

08 يوليو 2016

منزل مدمر في مرجعيون بسبب الحرب الإسرائيلية على لبنان(12يوليو/2006/Getty)

+ الخط -

قبل أيامٍ قليلة من الحرب، كنت أنهي تصوير آخر المشاهد من فيلمي الوثائقي "ظل الغياب" على الحدود الفاصلة بين فلسطين ولبنان. على بوابة فاطمة في قرية كفركلا، كان علينا أن نحفر حفرةً تتسع لتابوت خشبي، وضعنا في داخله أربعين حمامة، تنطلق منعتقةً من التابوت عند فتحه، وتطير فوق الشريط الفاصل، مقابل موقع الجنود الإسرائيليين الذين كانوا يراقبون ما نفعل، في وقتٍ وصلت فيه دورية لقوات الأمم المتحدة (يونيفل)، تستفسر عمّا يجري في تلك النقطة المركزية.
كنا أخذنا التصريح بالتصوير من المكتب الإعلامي لحزب الله. لم يكن هناك ما يدل على أي وجود عسكري للحزب، لكننا كنا نعلم أنهم موجودون، ومستنفرون بأسلحتهم، فقد أسرّ لي أحدهم أن الصواريخ جاهزة في حالة أقدم الجنود المحصنون في الطرف الآخر على أيّ حماقة. عندما وصل جنود "يونيفيل"، تحدث معهم أحد أعضاء الحزب، وأوضح سبب وجود جرافة تحفر تلك الحفرة، فاطمأنوا وتكلموا لاسلكياً ليطمئنوا الجنود الإسرائيليين. الملاحظة المقلقة الوحيدة التي أبداها الإسرائيليون عبر رجال "يونيفيل" هي الخشية من أن تكون الحمائم حاملة فيروس إنفلونزا الطيور الذي كان شائعاً.
أنهينا التصوير في ذلك المساء، وقفلنا عائدين إلى بيروت، وكانت الأجواء في الجنوب متوتّرة، فحرصت على عودة مدير التصوير التونسي علي بن عبدالله إلى بلاده، على أن أبقى مع عائلتي بضعة أيام، أعود بعدها إلى تونس.
لم تكن حرب تموز الأولى التي عشتها في لبنان، لكنها كانت حرباً من نوع آخر، لم تحظ بالتأييد والتعاطف، فقد كانت حرباً شرسة من الجانب الإسرائيلي، دمرت فيها البنية التحتية للبنان، فبرزت أصواتُ نقدٍ لحزب الله في أثناء القتال، لتوريطه البلد، بقرار فردي في حربٍ طاحنةٍ، يعرف كثيرون أنها كانت حرب إيران، في سياق مفاوضات ملفها النووي مع الغرب.
تجولت في أثناء الحرب بين بيروت وصيدا، على الرغم من خطورة الأمر، وعلى الرغم من سيطرة إسرائيل على الجو والبحر. لا أدري ما الذي كان يدفعني إلى السفر إلى بيروت، والعودة ثانيةً إلى صيدا، وكأنني في لحظةٍ ما، كنت أبحث عن دورٍ لا يقدّم ولا يؤخر، في حربٍ تدميرية طاحنة. كنت منحازاً لضرباتٍ موجعةٍ لإسرائيل، مع كل التخوفات من نتائج الحرب. أعترف أنني فرحت كثيراً بقصف البارجة الحربية الإسرائيلية قبالة الشواطئ اللبنانية التي أعلن عنها حسن نصرالله، في حركةٍ استعراضية ناجحة، جعلت منه رمزاً للمقاومة. وفي وسط هذا كله، خطرت لي فكرة التصوير في مستشفى الفنار للأمراض النفسية والعصبية جنوب صيدا مع نزلاء المستشفى من المرضى والأطباء، لرصد يومياتهم في أثناء الحرب الدائرة حولهم. أجريت اتصالاتٍ مع إدارة المستشفى، فلم تمانع، لكني فشلت في إيجاد مصور مغامرٍ، يقبل بالذهاب إلى الجنوب، تحت حمم القصف والتدمير. انتهى المشروع في لحظة ولادته.
بعد 33 يوماً توقفت الحرب، وكان عليّ العودة إلى تونس. كان مطار بيروت مقفلاً، فذهبت إلى دمشق، عبر الطرق السليمة من القصف. كانت الطريق الدولية مدمرةً. وفي الوقت نفسه، كان آلاف النازحين اللبنانيين الذين لجأوا إلى سورية يعبرون الحدود الى لبنان من غير توقفٍ على الحدود، يرفعون صور حسن نصرالله وأعلام حزب الله. قضيت في دمشق ثلاث ليالٍ قبل سفري. تجولت في المدينة التي تحوّلت إلى صورة عملاقةٍ لنصرالله. وفي مقهى النوفرة في الشام العتيقة، كان السوريون يترقبون خطاب نصرالله، وعيونهم معلقة بشاشة التلفزيون، ينتظرون خطاب "سيد المقاومة" بكل الحب والانبهار. لم يكن هؤلاء يتوقعون لحظةً أن هذا المقاوم سوف يوجّه بنادقه إلى صدورهم، ويدعم الطاغية في سحق حلمهم الأثير بالحرية. أضاع نصرالله فرصة الخلود في تاريخ الحرية الذي كتبته دماء السوريين درساً لن يُمحى من ذاكرة الشعوب الساعية إلى الحرية.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.