غاز الشتاء.. سلاح روسيا لتعطيل عقوبات الغرب

27 يوليو 2022
أنابيب تدفئة ضخمة في برلين مصدر غازها روسيا (Getty)
+ الخط -

مع تنفيذ "غازبروم" قرارها بتخفيض إضافي لإمدادات الغاز عبر خط "نورد ستريم 1" (سيل الشمال 1) إلى 20% من قدرته بداعي الصيانة اعتبارا من اليوم الأربعاء، من الواضح أن موسكو تظهر للاتحاد الأوروبي أنها تستطيع متى شاءت أن "تمسكه من اليد التي تؤلمه"، وكأنها تُنذر بروكسل بأن الشتاء القارس آت وأن الحاجة إلى الغاز الروسي تجعل عقوباتها في مهب الريح.

وفيما تقول الشركة إن سبب الخطوة هو إغلاق توربين غاز ثان من أجل إصلاحه، يعتقد الأوروبيون أن دوافع سياسية تقف وراء القرار.

تهكما يقول بعض الأوروبيين: "استمتعوا بموجات حر الصيف فالقادم شتاء لا يطاق"، نظرا إلى ما يعتقد كثيرون من أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يحاول بقوة استخدام سلاح الشتاء بوجه القارة العجوز المتعطشة للوقود، علما أن روسيا بالتأكيد لديها تجربتها في استخدام الشتاء كـ"جيش احتياطي"، وهو ما جربته مع جيش نابليون بونابرت قديما ومع جيش ألمانيا النازية.  

على أقل تقدير يحاول الكرملين منع أوروبا من إيجاد بدائل للغاز الروسي، لتعميق أزمات الديمقراطية الغربية، والدفع نحو حالة اقتصادية تستدعي تململا وانقسامات في القارة وعلى مستوى بعض دول العالم.

ما يتضح للغربيين أن سياسة موسكو، بعد نحو 5 أشهر من غزو أوكرانيا، ذاهبة إلى جعل الأوروبيين يرتجفون شتاء، بل إن صحفهم باتت تحذر المواطنين من غرف باردة واستحمام بمياه ثلجية، وخصوصا في دول الشمال التي تتجمد شتاء تمديدات المياه بدون أنظمة تحافظ على درجات حرارة تدفقها.

وفي مواجهة الاستعدادات الروسية لإدخال "جيش الشتاء" إلى الآلة العسكرية، التي تحاصرها السياسات الغربية بمزيد من العقوبات، والتي أيضا تشبه كـ"حرب عالمية اقتصادية"، ليس ثمة تفاؤل كبير لمحاصرة بذور الانقسامات السياسية والاقتصادية في الاتحاد الأوروبي.

بوادر غير مطمئنة لأوروبا

مراهنة بوتين على التسبب باضطرابات في منظومة الحكم الغربية ليست بدون أسس. فمع أن الخطاب الأوروبي ظل طيلة الأسابيع الماضية يتحدث عن "التحرر" من الطاقة الروسية، بل يحاول الإمساك بسلاح مقاطعته تماما، إلا أن انتهاج سياسة القطارة الروسي، ووقف خط "نورد ستريم 1" لابتزاز كندا لتوريد قطع غيار، وهو ما استجابت له أوتاوا بالفعل، أعاد التذكير بأن زمام المبادرة لم يفقده الكرملين، خصوصا أن بدائل الغاز الروسي لم تحسم  قبل موسم ملء الخزانات وبداية الشتاء.

خلال الأيام الماضية انضمت إيطاليا إلى قائمة طويلة من الدول التي تعيش أزمات تحت مطرقة الأوضاع الاقتصادية والمالية.

وإذا كانت سيرلانكا والبيرو وأندونيسيا وغيرها من الدول تعيش الارتدادات بأنماط مختلفة، وهو ما يتوقع لقائمة دول لا يستثنى منها العالم العربي، فإن حكومة الليبرالي الإيطالي، صاحب التوجه الأوروبي، ماريو دراغي، أحست بالتأثير السلبي على الديمقراطيات في الغرب.

في الواقع استثمرت الطبقة الحاكمة في موسكو لسنوات طويلة، وتحت أعين الغربيين، في تعزيز العلاقة مع طراز بعينه في الساحة الأوروبية.

وفي روما يعتقد وزير خارجيتها، لويجي دي مايو، أن دفع حركة الخمس نجوم نحو انهيار حكومة الوحدة الوطنية ليس بمعزل عن ذلك التأثير، وأنها تخدم موسكو.

دي مايو كان نجما في الحركة قبل أن يهيمن عليها رئيس الحكومة السابق، جوزيبي كونتي، المتهم مع زعيم حركة ليغا، ووزير الداخلية السابق، ماتيو سالفيني، بتنفيذ أجندات موسكو في بلادهم. وبغض النظر عن النتيجة، سواء ذهبت إيطاليا إلى انتخابات مبكرة، حيث يتقدم الفاشيون في الاستطلاعات، دون إغفال محاولات اليمين القومي المتشدد قلب الطاولة، فإن تأثير روسيا لا يمكن إنكاره.

وليس بعيدا عن ذلك، فإن أزمة الثقة المكتومة في إستونيا، في دول البلطيق (إستونيا وليتوانيا ولاتفيا، التي كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي السابق)، تتكشف في محاولة إسقاط رئيسة الوزراء الأكثر انتقادا لبوتين، كاجا كالاس، من خلال انفصال حزب "المركز" عن الائتلاف الحكومي مع حزبها "الإصلاحي".

المسألة هنا واضحة، فحزب المركز ليس سوى تعبير عن سردية موسكو عن "الأقليات الناطقة بالروسية"، لتشريع تدخلاتها في دول الجوار. علاقة حزب المركز بحزب بوتين "روسيا المتحدة" ليست من الأسرار، وتحالفه معه مستمر منذ 18 سنة، وإن أعلن في مارس/آذار الماضي، تحت وطأة الحرب في أوكرانيا، تجميد الصلات معه، وهو لم يفعلها طيلة 8 سنوات من ضم شبه جزيرة القرم والتدخل في دونباس منذ 2014.

(Getty)

ما ينطبق على إستونيا نجده في ليتوانيا في انقسامات واضحة على مستوى السياسة والشارع، بين تيار استقلالي أوروبي الهوى وآخر ناطق بالروسية بدأ يتحرك أخيرا. التوتر المتزايد بعد قرار منع عبور البضائع الروسية من ممر سوالكي الليتواني إلى جيب كالينينغراد الروسي على البلطيق عجل بظهور الاصطفافات المتعارضة في البلد.

ورغم أن فيلنيوس تراجعت عن القرار، وقبلت نقل الإمدادات بالقطارات وليس بالشاحنات، فإن مخاوف الحكومة الليتوانية من "الخطوة الروسية التالية"، التي يعتقد البعض أنها بعد أوكرانيا قد تستهدف دول البلطيق الصغيرة، تعزز الانقسام في البلد.

إذا، يؤمن البعض بعمق "الأعراض الروسية"، في الاقتصاد والمال، في مجتمعات غرب وشمال أوروبا. والمراهنة الروسية تظل تحوم حول التأثير في الطبقة المتوسطة الغربية، من خلال الغاز والطاقة، بل واجتماع تلك الأزمة مع أزمة كورونا التي عادت التحذيرات من إمكانية عودتها في موجة جديدة، والقارة العجوز أصلا ما تزال تتلمس مخارج أزمات اقتصاداتها بسبب الجائحة، مع محاولات حثيثة من البنك المركزي الأوروبي للجم ارتفاع التضخم وأسعار الفائدة في دول معسكره، إلى جانب ما يعكسه سعر اليورو وتراجع قدرته الشرائية على مواطني القارة. 
أبعد من أوروبا.. دول تسير نحو الاضطرابات.

إذا كانت الأجواء الجافة والحارة التي ضربت بعض مناطق القارة الأوروبية، وغيرها، تعيد التذكير بمأساة التغير المناخي، فإن مزيج ذلك مع حرب أوكرانيا بات يشكل مقدمة لأزمة غذائية واقتصادية عالمية.

وليست القارة وحدها التي تستشعر تلك التغيرات، وتضع مخاوفها على الطاولة، وخصوصا نظرتها المتشائمة من موجات هجرة ولجوء نحوها. فمؤخرا حذر الرئيس التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمي (WFP) ديفيد بيزلي، من أن "الظروف اليوم أسوأ بكثير مما كانت عليه خلال الربيع العربي في 2011، ومن أزمة الغذاء في 2007-2008، عندما اهتزت 48 دولة بسبب الاضطرابات السياسية وأعمال الشغب والاحتجاجات". الرجل قدم ما شهدته باكستان وبيرو وسريلانكا إندونيسيا كأمثلة على أن العالم لم يشهد سوى "قمة جبل الجليد".

فدول كثيرة، بما فيها عربية، ستجد نفسها أمام ظروف أصعب مما كانت عليه قبل ثورات الربيع العربي، حيث انتهجت روسيا سياسات قطع وإعاقة توريد الحبوب إلى دول الجنوب تحديدا،  ويتهمها الغرب بأنها تهدف إلى خلق أزمة غذاء عالمية للضغط على الليبراليات الغربية، والتخويف بآثار انهيارات تؤدي إلى مواسم هجرة لا تستطيع القارة تحملها.

وغير بعيد عن ذلك كانت وزيرة خارجية ألمانيا، أنالينا بربوك، اتهمت روسيا بالتسبب عمدا في مجاعة من خلال منع صادرات الحبوب الأوكرانية. ذلك دفع إلى تلاسن يعبر عن عمق الأزمة الغربية- الروسية، حيث  رد الرئيس الروسي السابق، والنائب الحالي لرئيس مجلس الأمن القومي، ديمتري ميدفيديف، على الاتهامات بالقول إن "وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بربوك تتهم روسيا "باستخدام الجوع كسلاح".

جاء ذلك بشكل مفاجئ من ممثلة بلادها التي تسببت في  لينينغراد (سان بطرسبورغ اليوم) خلال مدة 900 يوم في وفاة حوالي 700 ألف جوعا".

إلى ذلك، فانتهاج موسكو لسياسات لي ذراع الديمقراطيات الغربية عبر الاقتصاد والطاقة، وهو واقعيا ما اندفع إلى مراكمته بوتين منذ 2008، لا يمر بدون أثمان فادحة يدفعها الروس أنفسهم، هذا إلى جانب الأعداد الكبيرة في قتلى الجيش الروسي (بين 25 و34 ألفا بحسب التقديرات الغربية) وخسائر في المعدات وانتهاج سياسات تستعيد بعض ما عاشوه في الزمن السوفييتي.

فبحسب تقديرات البنك الدولي تؤدي العقوبات على روسيا إلى انكماش اقتصادي بأكثر من 11%، وهو أكبر انكماش منذ انهيار الاتحاد السوفييتي قبل نحو 30 عاما.

إجمالا، فإن مراهنة موسكو على التأثير في الاقتصادات الغربية يقابله مراهنة غربية على المدى الطويل. وبينما تسرع الدول الغربية إلى إيجاد بدائل، بل زيادة مخزوناتها من الغاز (كما فعلت ألمانيا بزيادتها من 30% إلى 58% منذ إبريل/نيسان الماضي)، وذلك لمواجهة النقص لبقية العام، فإن طبيعة الحكم الأوروبي الأقرب إلى بعض الشفافية والمحاسبة هو ما يقلق صناع القرار، إذ ستكون حكومات أوروبا أمام شعوبها المتذمرة ملزمة بالإجابة عن الأسئلة وتخطي التحديات.

وفي المقابل، فإن موسكو تنتهج سياسة أكثر صرامة داخليا في مواجهة الواقع الاقتصادي المأزوم، وبتجربة ممتدة طيلة حكم السوفييت من 1917 حتى 1991. فمحاسبة الحكومات المنتخبة ديمقراطيا في الغرب تضع أوروبا كلها على المحك، للاختيار بين شتاء منزلي ما قبل عصر الصناعة حفاظا على المكتسبات الأخرى، أقلها في مقاربة المتخصصين للفارق بين قيم الحكم في روسيا وفلكها ونظام الحريات والديمقراطية في الغرب.

الاقتصاد هنا هو اللاعب الرئيس في قياس مدى تحمل دول الرفاهية لنقص الطاقة حفاظا على النظام الأمني الأوروبي، الذي يحاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلخلته بقوة من خلال التحكم بدرجات حرارة بيوت الأوروبيين شتاء، إضافة إلى قطاعات كثيرة ستتأثر بالطبع بارتفاع أسعار الطاقة وشحة وصولها إلى شرايين الصناعات.

يحاول بعض الأوروبيين، الرابطين بين الاقتصاد ومستقبل القارة، إشاعة أجواء تطالب سكان الاتحاد الأوروبي بتحمل "تجمد الأقدام قليلا بدل أن تتجمد روح القارة". وبين شتاء حرب اقتصادية روسية-غربية وسوء أوضاع شعوب بالمليارات حول العالم تبقى الدول الأقل ثراء وقدرة على تأمين استقلال غذائي وتنموي الأكثر دفعا للأثمان، إذ يبدون كرهائن بين قطبي رحى الحرب الطويلة والآخذة بالتعدد في الأشكال والأنماط الخطيرة النتائج على دولهم ومجتمعاتهم. 

المساهمون