آخر الدواء الحرب

03 يناير 2021
+ الخط -

في كتاب "الأمثال": "آخر الدواء الكي". وفي كتاب السياسة: "آخر الدواء الحرب". .. وقديمًا قال داهية الأمويين، معاوية بن أبي سفيان: "لا أضع سيفي حيث يكفيني صوتي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كنت إذا مدّوها خليتها وإذا خلوها مددتها". وما تشهده المنطقة العربية، وجوارها، في الأيام القليلة الباقية من عهد الرئيس الأميركي، ترامب، المنقضي، تعبير عن "انقطاع شعرة معاوية" بين المتصارعين على مسار شعوبنا ومصيرها. واللجوء إلى الحرب في المدارس السياسية المختلفة يكون بعد استنفاد الوسائل الأخرى التي يمكنها تحقيق هدف إكراه الخصم على تغيير سلوكه. وعلى سبيل المثال، خلال أيام معدودة، أصبح ترامب ونتنياهو وأبي أحمد وخليفة حفتر .. وغيرهم يتحدّثون عن الحرب، أو يقتربون من اتخاذ قرارها. وفي خطوة هي، على وجه القطع، لا سابقة لها في تاريخ إسرائيل، امتنعت عن إصدار تأكيد أو نفي رسمي لتوجّه غواصةٍ إسرائيلية نحو الخليج. وخلال سنوات حكم ترامب، كان توجيه ضربة عسكرية لإيران هدفًا إسرائيليًا يبحث عن "قفاز أميركي"!

وبسبب التعقيدات الدولية الكبيرة التي ينطوي عليها النمط الذي يُفَضَّل ألا تخرج عنه المواجهة الأميركية الإيرانية، كان القرار الأميركي بالسماح بضربة عسكرية إسرائيلية لإيران يتعثّر في قائمة طويلة من المعيقات: مخاوف روسية، وتخوّفات أوروبية، وتحفظ صيني. وفي المقابل، كان القرار مدعومًا، فقط، بتحريض خليجي إسرائيلي. والحرب في إثيوبيا: واقع مثير للقلق، وفي السودان: برميل بارودٍ تنقصه شرارة الاشتعال، وفي ليبيا: تهديد معلن، وفي الخليج أعواد ثقاب كل الأيدي التي تحملها مرتعشة حتى اللحظة. .. فهل نضجت صفقة؟

احتمال توفير غطاء سياسي أميركي لضربة إسرائيلية تقف في طريقه عقبات كثيرة،

والأرجح أن قرارًا أميركيًا بضرب إيران أصبح أبعد من أي وقتٍ مضى، وأن احتمال توفير غطاء سياسي أميركي لضربة إسرائيلية في طريقه عقبات كثيرة، والإيرانيون في موقفٍ يشبه موقف جمال عبد الناصر عشية نكسة يونيو (حزيران) 1967: يحرّكهم الطمع في عودة الرئيس الأميركي المرتقب، بايدن، إلى الاتفاق النووي، وعليهم انتظار الضربة المحتملة والفوز بوسام: "الرد في إطار حق الدفاع الشرعي"، بينما تريد إسرائيل توجيه ضربةٍ استباقيةٍ تتمنّى أن يبتلعها الحلفاء والخصوم بأقل درجة ممكنة من الامتعاض، وأن يعتبروها ضمن استحقاقات "الاستثناء الإسرائيلي".

والسنوات العشر الماضية، (أكثر من أي وقت في تاريخ المنطقة الحديث)، كانت حلبة ملاكمة مزدحمة بأشكال الضغط الممكنة كافة لتحقيق هدف "إكراه الخصم على تغيير سلوكه"، والجميع تقريبًا استخدم في مواجهة خصومه كل ما في جعبته: حرب إعلامية شرسة، تمويل محاولة انقلاب عسكري فاشلة، حرب اقتصادية، حشد مرتزقة، عقوبات هي الأقسى، حصار شامل، تنافس واسع على إنشاء قواعد عسكرية، مناورات وتدريبات عسكرية مشتركة ذهبت فيها جيوشٌ إلى بلادٍ لم تذهب إليها من قبل، شراء جماعات ضغط في الغرب،.. وبعد هذا كله، بقيت المواقف كما هي، وازداد الاستقطاب عمقًا وحدةً.. فهل بقي إلا الحرب؟

أصبح ترامب ونتنياهو وأبي أحمد وخليفة حفتر... وغيرهم يتحدّثون عن الحرب، أو يقتربون من اتخاذ قرارها، فهل تحصل؟

وتغير ساكن البيت الأبيض من المعطيات الرئيسة في التصاعد السريع للتوتر الذي تشهده المنطقة، فبعد أن بدا أن المنطقة تقترب من تهدئة، جاء خروج ترامب/ دخول بايدن ليكون كابوسًا لبعضهم وأملًا لآخرين. وبهذا انقطعت "شعرة معاوية"، فارتفع صوت الحديث عن الحرب. ومن الخطأ، بل ربما تبيّن متأخرًا أنه خطيئة، معالجة أزمات المنطقة المتشابكة بناء على التشابه السطحي بين الظواهر. ونعني بذلك التشابه بين الكي، بوصفه آخر ما كان الطبيب قديمًا يلجأ إليه بعد أن تفرغ جعبته من الأدوية، والحرب بوصفها الخيار الأخير الذي يلجأ إليه السياسي بعد أن يجرب البدائل كافة، ويفشل في "إكراه الخصم على تغيير سلوكه". والأدق أن يقال إن اللجوء إلى الحرب، في ظل التعقيدات المتشابكة في المنطقة وجوارها، يشبه الانتحار بمشنقةٍ نجدلها من "شعرة معاوية". وما يعبر عن هذا الحال، على نحو أفضل، هو المثل البائس العدمي: "وداوني بالتي كانت هي الداء". وخارج عالم الخيال الشعري، لا يتداوى بالداء إلا أحمق!