موجز عن جهاد هديب

13 نوفمبر 2015

جهاد هديب.. خبأت له الحياة خديعة كبرى

+ الخط -

لم يكن جهاد يريد نوبةَ ثرثرةٍ تقليدية بيني وبينه، لمّا أطل عليّ في مطرح المحادثة الشخصية في "فيسبوك"، وكثيراً ما كان يفعل، في ليلةٍ في نيسان/أبريل الماضي، بل كان يريد أن يُفرحني، من عمّان، في مقامي في الدوحة، بأن أطباءه أبلغوه بشفائه من السرطان، وأن المرحلة المقبلة ستكون لعلاج الآثار الجانبية. كتب لي "هزمتُه ولم يهزمني، يا صاحبي، لأنه أُصيبَ بي، ولم أُصب به". كانت بهجتي به، لحظتها، بسعةِ الدنيا، ثم أخذنا حديثُنا إلى شؤونٍ أخرى، وإلى موعدٍ بيننا سيكون في أبوظبي، بعد أيام. التقيت، وأصدقاء عديدون، جهاد هناك، أفزعني بعض الشيء نحوله الجديد. لم يكن هو هو، المبتسم المتأمل في الأشياء، والمدخّن، بل كان هو هو، القارئ الذي يُشارك، مثلاً، في نقاش، عن رواية عاطف أبو سيف، بمعرفةٍ ومحبةٍ، في ندوةٍ في معرض الكتاب، ويُخبرنا، نحن أصدقاءَه، وما أكثرنا، أن المرحلة الحرجة من المرض والعلاج مضت، وأَنها شهور، ويعود إلينا جهاد هديب الذي نعرف، والذي ننتظر.

كما تلك المرّة، غافلني جهاد في ليلٍ متأخر في حزيران/يونيو الماضي، في مطرحي في الدوحة، وفي "فيسبوك" طبعاً، لندردش، وليسألني عن أحوالي (!)، وليفرحني ببهجةٍ جديدة، فيخبرني بأن الأطباء مطمئنون جداً، وأنه الآن في طور خروج الأشعة من حنجرته، مع آلام كثيرة. أبلغني أنه خضع لأربع وثلاثين جلسة علاجية صعبة. (في النهار التالي، نشر، على صفحته، بفرح، هذه التفاصيل، مع صورة تقريرٍ طبي). اتفقنا على لقاءاتٍ في عمّان بعد أيام، صرفنا دردشتنا عن حديث المرض الكئيب، وجئنا على نمائم طفيفة، وعلى الكتابة والصحافة والثقافة. وتالياً، استقبلتني عمّان بنبأ انتكاسة صحة جهاد، وبتمكّن المرض الخبيث منه، وبعدم رغبته في أن يرى أحداً، ثم تتابعت الأخبار المقلقة، ثم الأكثر قلقاً، إلى أنْ سافر جهاد إلى حيث تقيم الآن روحه في سلام، في موكبٍ من محبةٍ غزيرة، فاضت بها مشاعر أصدقائه العديدين من نواكشوط إلى المنامة.

أعتذر لقرّاء هذه الكلمات، للشخصيّ الكثير فيها، لكنّ ما يسوّغها أنها عن جهاد هديب، الشاعر والكاتب والصحافي الذي لا أقع في أيِّ تزيّد إذا كتبتُ، هنا، أن جمهورية قرائه ومحبيه وعارفيه وأصدقائه شاسعة، فقد حضر في الصحافة الثقافية العربية مجتهداً ومنتبهاً وحاذقاً، ما أمكن له من مساحات حريّة، في شؤون الشعر والرواية والتشكيل والمسرح. وقبل ذلك وبعده، هو شاعر له اسمه اللافت بين الأصوات التي برزت في القصيدة العربية الجديدة، النثر خصوصاً، منذ سنوات التسعينيات الأولى، والتفتت إلى نبرته الشعرية أقلام وازنة. وإذ أكتب سطوري هذه، وبين يديّ مجموعته الأخيرة "تمثال مخمور" (دار فضاءات، عمّان، 2014)، أراني أمام قصيدةٍ مركّبة، ذات نزوع مغامر في تجريبيةٍ رائقة. ومن بالغ الدلالة أن هذا الديوان هو ديوان سابق لجهاد معدلاً، فقد أجرى مراجعةً لقصائد مجموعته "غروب كثير يمر في التخوم"، والذي نشره في 2006، وأصدرها بالعنوان الجديد، بعد كدحٍ وإعمال نظر كثيريْن فيها.

أصاب كثيراً صديقٌ مشترك، كتب، أخيراً، أن جهاد لم يرحل عن 48 عاماً بعد صراعٍ مع المرض، بل بعد صراعٍ طويل مع الحياة. كابد حبيبنا الراحل كثيراً، وغالب أحوالاً ليست هيّنة، وهو ابن مخيم فلسطيني في الأردن، يتيم الأب مبكراً، لم تتيسر له سبل العمل والوظيفة والدراسة الجامعية إلا بكدّ ودأب منه كثيريْن، مع احترامٍ أنيقٍ لاعتباريته مثقفاً وكاتباً وشاعراً، وصاحب طموح، وصاحب موقف ورؤية أيضاً. لكن خديعة كبرى كانت تخبئها له الحياة نفسها، إذ عندما بدأت تنفتح أمامه آفاقٌ أحسن في العمل والعيش الأفضل، باغته المرض الخبيث، وأين؟ في حنجرتِه، وهو صاحب الصوت الخفيض دائماً، وغير المسموع أحياناً، بل كان الهمس واحداً من سجاياه، وكثيراً ما كنّا، نحن أصدقاؤه الذين بلا عدد في جمهوريته الفسيحة، نتمنّى عليه صوتاً أعلى. كان سخياً في محبّته لنا، إلا أنْ يتنازل لنا عن همسه الأثير ... والبديع.

 

  

دلالات
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.
The website encountered an unexpected error. Please try again later.