بفضل رؤيته المتجاوزة للانتماءات الجاهزة، مثّل إريك هوبزباوم (1917 - 2012) ظاهرة فريدة في ميدان التاريخ، خصوصاً حين تصدّى لمشاريع عمل كبرى، محاولاً أن يكون التاريخ أداة تخدم فهماً حياً ومعاصراً لما يدور اليوم.
ضمن سلسلة "ترجمان"، صدرت عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" ترجمة آخر أعمال هوبزباوم "أزمنة متصدعة: الثقافة والمجتمع في القرن العشرين"، من إنجاز الطبيبة والباحثة المصرية سهام عبد السلام.
يمكن أن نرى هذا العمل مثل خاتمة تأليفية لرباعية المؤرخ البريطاني الشهيرة؛ "عصر الثورة: أوروبا (1789-1848)"، و"عصر رأس المال (1848-1875)"، و"عصر الإمبراطورية (1875-1914)"، ثم أضاف إليها لاحقًا "عصر التطرّفات". تقف هذه الأعمال عند مرحلة تبدو وقد انفصلت عن مسار تطوّر العالم المعاصر، كونه تشكّل بالأساس من نتائج الحرب العالمية الثانية والحرب البادرة وما جاء بعدهما.
الكتاب عبارة عن مجموعة محاضرات، يربطها خيط ناظم، وهو التاريخ الثقافي في أوروبا، وقد حرص هوبزباوم على أن يبقي بقية التورايخ، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، في الظل. تمتد نصوص هذا العمل من 1964 وصولاً إلى سنة رحيله 2012، وقد نُشر الكتاب بالإنجليزية في 2013.
نقطة البداية التي اختارها المؤرخ البريطاني، في عمله هذا، هي تساؤل يقول فيه "ماذا حدث للفن الذي رعته البرجوازية، بعد أن تلاشت هذه الطبقة بعد 1914؟"، وهو سؤال متناغم مع منهجية اعتمدها بكثرة سابقاً حيث يجعل من الفن انعكاساً للحقيقة التاريخية.
التتبع التاريخي للفن أتاح له أن يضع إصبعه على "مأزق الثقافة الرفيعة" الذي ظهر في القرن العشرين، ويمتد حتى اليوم، حيث أن تلك الأفلام التاريخية أو السيمفونيات أو مسرح مآسي الكبرى لم تعد يجذب إلا قلة، فيما تغرق الأغلبية في تيار استهلاكي فرض أن يرتقي "الترفيه" إلى مستوى الفعل الثقافي، وبات منتجوه يصنّفون كفنانين، وهو ما يسميه بهزيمة الفنون حيث باتت "زائدة عن الحاجة".
يُعرف هوبزباوم، بأنه مؤرخ ماركسي، ومن هنا يمكننا فهم محورية طبقة البرجوازية في مشروعه التاريخي، ومن ثم مجموعة أسئلته التي ظلت في النهاية سؤال ماركس المحوري حول كيفية تطوّر الرأسمالية.
الفرق هو أن ما كان مستقبلاً لدى ماركس بات حاضراً مع هوبزباوم، إضافة إلى استفادة الأخير من تطوّر المنهجيات والعلوم المجاورة للتاريخ.