"ألبوم الخسارة"
مساء السبت 8 أغسطس.
من أين أبدأ؟ إلى أي مدى ينبغي أن أمطّ عينيّ لتحيطا بهذا المشهد الكارثيّ، أو شفتيّ لتتسّعا لكل هذا الحطام والركام والحديد والزجاج والحجارة والقتلى؟ أربعة أيام مضت على الانفجار الكبير. ما حدث لنا، نحن اللبنانيين، مساء الرابع من أغسطس/ آب عام 2020 عند السادسة و8 دقائق، صار له اسم يُختصر بكلمتين: انفجار بيروت. ليس الانفجار الذي وقع في بيروت، وإنما الانفجار الذي فجّرها، دمّرها، دمّمها، قتلها. أجل، هناك فرق كبير.
لم أكن أريد النزول إلى مناطق الجمّيزة ومار مخايل والمرفأ المدمّرة تماما. ما وصل إلينا من ارتداداتٍ كان كافياً لإفهامنا ما جرى: العمارة التي مادت بنا يمينا ويسارا، ذعرُ طفلتي وصراخها أنها فقدت ساقيها وما عادت تستطيع الوقوف عليهما، ومشهد حريق المرفأ الذي يبعد عنا، طيرانا، بضع مئات الأمتار. لكن، هذا المساء، كان لا بدّ من تشييع قتلانا والسير على الأقدام حتى ساحة الشهداء.
وفي هذا، كنّا كثرا. نمشي، ثم نتوقّف لنتأمّل، نفتح أفواهَنا فُجاءة وحزنا، نطلق شهقاتٍ قصيرة ونتأسّف، نستعيذ بالله وننادي القدّيسين والأولياء والإله: لم فعلت بنا هذا وإلى متى؟ نتقدّم من جديد، فيفاجئنا منظرٌ أفظع، دمارٌ أكبر، نصفّق الأكفّ بالأكفّ، قبل أن نرفع أيدينا إلى أفواهنا كي نكتم صرختنا. مدينتنا باتت أشلاء. جسدٌ ضخم كبير، مفتّت، مفكّك، مشظّى، مغدور. جسد حوتٍ عملاق ممدّد على شاطئٍ رمالُه سوداء. كثرًا نسير والأعداد وراءنا تتوافد، أعلام لبنان ترفرف في الهواء، تغطّي جسد الحوت الفاجعة. نمرّ بخيم وُضعت على الرصيف لتقي صحافيين أجانب الشمسَ، وهم يقفون والميناء القتيل من ورائهم. أتأمّلهم وأسمع أصواتهم، لكني لا أتابع كلامهم. كل ما سيقولونه هباء. اللامعنى هنا، تحت أقدامهم وأمام أعينهم، فكيف يصوغونه ولا قاموس لديهم ليصفوا. لم يعد لدينا قاموسٌ نحن أيضا. لقد انتهى كلامنا كلّه، ولم يبق سوى أن نصمت ونسير.
تستند الشابة بظهرها إلى درابزين الرصيف. المرفأ من ورائها لوحة قيامة. يقف رفيقها أمامها رافعا كاميرا الهاتف. المشهد آسر. ماذا تفعلان أقول، ولماذا تتصوّرين أمام هذا الخراب؟ للذكرى، يجيبني الشاب محرجا، بينما تقول هي إنها لم تقف لتتصوّر، بل لأنها تعبة. أخجل وأعتذر. لقد سألتُ فقط لأني أريد أن أفهم. في الحقيقة، لا شيء لأفهمه. لقد بات المشهد ديكورا فعلا، ونحن اليوم نمرّ به بانتظار بنيان ديكور جديد. لا يمكن للشبّان، وهم الشريحة الأكبر من المتظاهرين والموجودين هنا، أن يستقرّوا فيه مثلما قد أفعل أنا. عليهم أن يعبروه، أن يحوّلوه ذكرى، لصالح استمرار الحياة. لسنا جميعا متساوين أمام الذاكرة. بعضنا طيورٌ تحلّق عابرةً، فيما الآخرون زواحف تعلق في الوحول والركام.
لم تعد عيناي تتسّعان لهذا كلّه. لقد امتلأتا وفاضتا. أسعى إلى كاميرا الهاتف كي تنوب عنهما. الشمس القوية في بؤبؤيّ. لا أرى من المشهد شيئا. لا بأس، عدسة الكاميرا ترى نيابة عنّي. العرق ينزل من رأسي إلى وجهي. ليست هذي دموعا، لا. البكاء في بطني، في صدري، في ظهري وساقيّ. ربما كانت الفتاة تتصوّر كي تتأكّد من أنّ هذا حدث بالفعل. ما أرّقني هو وجودها في الكادر. ربما تفعل كي تتأكد أنه حدث، وأنها كانت فيه.
وصلتُ إلى الصيفيّ. ساحة الشهداء على بعد أمتار. الريح تدفع باتجاهنا دخان القنابل المسيّلة للدموع. لا بأس من دمعتين هنا، فالعذر واضح، والحجّة في الجيب. يمرّ أمامي شاب جريح الرأس، الدماء تغطّي ملامحه. في أعلى الساحة، نسمع صوت رصاص. مطّاط، يصرخ بعضهم من حولي، ثم نرى عناصر جيشٍ تركض خلف المتظاهرين. مدّ وجزر، صفارات الصليب الأحمر، صفارات سيارات الشرطة، قرع الأيادي على السياج الحديدي، موسيقى مرتفعة، صخب، صخب، صخب، ثم رصاص حيّ ..
لم أبلغ الساحة. اشتعلت تماما، وعليّ ألا أخاطر لأرجع إلى ابنتي سالمة. يجافيني النوم. لا بأس، أُفرغ كاميرتي من حمولتها وأضع لصورها عنوانا. "ألبوم الخسارة"(*)!
(*) عنوان ديوان للشاعر عباس بيضون.