على الرغم من محاولات الدفع برئيس مجلس النواب المجتمع بطبرق عقيلة صالح، لشغل الفراغ الذي أحدثه غياب اللواء المتقاعد خليفة حفتر التدريجي منذ إعلان القاهرة، مطلع يونيو/ حزيران الماضي، إلا أن ذلك الفراغ لا يزال يشكل عقبة أمام جهود أي وئام أو وفاق في البلاد، خصوصاً بعد اضطرار حلفائه الدوليين والإقليميين إلى ملء الفراغ العسكري بمقاتلين مرتزقة.
ولفت العديد من المراقبين إثر إعلان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن إعلان القاهرة السياسي، الذي ظهر فيه عقيلة صالح شخصية رئيسية وحفتر شخصية ثانوية، إلى أنه بمثابة إعلان وفاة حفتر سياسياً وعسكرياً، في الوقت الذي تداولت فيه وسائل إعلام بشكل واسع أنباء عن وجوده في إقامة جبرية في القاهرة، لكن مصادر لـ"العربي الجديد" أكدت في حينه، أنه ليس في إقامة جبرية بالقاهرة بقدر ما أن المجتمع الدولي توافق على نهاية دوره والبدء في تعويمه عبر اختفائه من عناوين الأخبار ووسائل الإعلام التابعة للدول التي دعمته في السابق.
لكن أوساطاً برلمانيةً من طبرق أكدت لـ"العربي الجديد" أن صالح هو الآخر يعيش حالة رفض قبلي في أوساط القبائل بشرق ليبيا، حيث تُعدّ القبائل الظهير الأقوى لوجود البرلمان في طبرق، وطالما شكلت الداعم الأول لحروب حفتر في أكثر من منطقة، آخرها في جنوب طرابلس.
بل وذكرت ذات الأوساط، ومنها شخصية برلمانية مقربة من صالح، أن توقف مساعي المملكة المغربية لإحياء اتفاق الصخيرات، التي بدأت الأسبوع الماضي، جاء بسبب ضعف قانوني ودستوري كبير يعانيه صالح، حيث عارض عدد من النواب الموالين لحفتر مساعي إحياء الاتفاق، تزامناً مع سخط بين أعيان عدد من القبائل التي لا تزال على صلة بحفتر، مشيرة إلى أن الخلافات بين صالح وحفتر عادت إلى نشاطها مجدداً.
وخلال بيان مشترك، الثلاثاء الماضي، أعلن أبرز داعمي حفتر في مجلس النواب بطبرق، زياد دغيم وعيسى العريبي، رفضهما لوجود صالح في العاصمة المغربية لمناقشة إحياء اتفاق الصخيرات، مشددين على رفضهما لشرعية المجلس الأعلى للدولة. واعتبر النائبان أن المسار السياسي محكوم بآخر مرجعية دولية، وهي اجتماع برلين، وأن اتفاق الصخيرات سبّب انسداداً سياسياً كبيراً لا يمكن تطبيق الاتفاق معه، في وقت ظهر فيه حفتر يستعرض مقاتليه في كتيبة طارق بن زياد، التي يقودها نجله صدام، في بنغازي.
وأكد النائبان أن حفتر لا يزال على صلة بالإمارات التي لم تنفض يديها كلياً منه، عكس القاهرة، لكن موسكو وباريس هما الأخيرتان لا تزالان تحافظان على مسافة مع حفتر ولم تقطعا علاقتيهما به نهائياً، ما شجعه على التفكير في العودة إلى الواجهة مجدداً ولعب أي دور محلي، ومنه إمكانية الدفع بعدد من فصائل كتيبة طارق بن زياد إلى الميدان مجدداً، الذي بات مقاتلو "فاغنر" يشغلونه في سرت والجفرة.
باتت موسكو عامل قلق ليس لواشنطن فقط، بل للأوروبيين ودول الجوار أيضاً، بعد توسع انتشارها في موانئ ومواقع نفطية وأخرى عسكرية واستراتيجية
وكلّ هذه المستجدات تشير، بحسب الناشط السياسي الليبي سامي المدهون، إلى حالة الارتباك التي يعيشها معسكر شرق البلاد بسبب سياسات داعميه الخاطئة التي لم تحسب حساباً لإمكانية هزيمة حفتر وسقوط مشروعه، وإفراغ الساحة من أي شخصية يمكنها أن تشغل مكانه. لكن المدهون لا يرى، في ذات الوقت، في عودة حفتر إلى المشهد إلا عاملاً جديداً لمزيد من الفوضى. ويشرح المدهون في حديثه لـ"العربي الجديد" الأوضاع بأنها تكاد تكون موحدة في غرب البلاد، لوجود حكومة وحليف معلن عنه ممثل في أنقرة، لكن تشعب الأمور في شرق البلاد دفع بها إلى حالة الارتباك التي قد تفضي إلى فوضى واسعة، موضحاً أن "الروس هم الطرف الأكثر غموضاً، فهم لا يعلنون عن وجودهم رسمياً ولديهم مقاتلون مرتزقة من جانب ويدعمون الحلّ السياسي من جانب آخر، من خلال مبادرة صالح السياسية ودعم إعلان القاهرة". وأشار إلى أن الحديث عن نية واشنطن فرض عقوبات على حفتر بسبب علاقته مع الروس، يعني أن واشنطن على دراية باستمرار تلك العلاقة.
ويؤكد الناشط السياسي أن موسكو باتت عامل قلق، ليس لواشنطن فقط، بل للأوروبيين ودول الجوار أيضاً، بعد توسع انتشارها في موانئ ومواقع نفطية وأخرى عسكرية كقاعدة الجفرة، ومواقع استراتيجية قرب الحدود الجنوبية للبلاد، من دون أن يكون لها حليف ظاهر ومعلن في ليبيا بعد الغياب الذي لوحظ على حفتر.
ويرى المدهون في محاولة القاهرة التعامل المباشر مع زعامات القبائل دليلاً واضحاً على فراغ الساحة من أي حليف يشغل مكان حفتر، ويدلّ أيضاً على أنها لا تعوّل كثيراً على صالح وبرلمانه.
وشكّل البرلمان في طبرق واجهةً سياسيةً منذ انعقاد جلساته بمخالفة دستورية في أغسطس/آب 2014، حيث منح حفتر رتبة عسكرية رفيعة وسمّى مليشياته بـ"الجيش"، وعرقل تنفيذ اتفاق الصخيرات الذي تهدّد بنوده وجود حفتر على رأس المؤسسة العسكرية. لكن الباحث السياسي الليبي بلقاسم كشادة، يعتبر أن فرنسا هي التي تتحمل الجزء الأكبر من مسؤولية إبراز حفتر في الساحة، لكونها أول من استضافته كشخصية رئيسية ليبية في لقاء باريس في مايو/ أيار 2018، على الرغم من وجود عقيلة صالح في اللقاء.
وبعيداً عن الحديث عن المسؤول عن وجود حفتر في الساحة، يؤكد كشادة لـ"العربي الجديد" أن الأوضاع في شرق البلاد تعيش على صفيح ساخن نتج من عدم جدية المواقف المصرية، وفقدان زعامات القبائل في شرق ليبيا الثقة بوعود الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي التي بدأت بوعدهم بتسليحهم، وآخرها قرار البرلمان المصري شرعنة تدخل مصري عسكري مباشر في ليبيا من دون أن يتحقق منه شيء.
تواجه التفاهمات الجارية حالياً بين أنقرة وموسكو عرقلة حقيقية تتمثل في من يمثل معسكر شرق ليبيا سياسياً، في حال وصول الأوضاع لمرحلة التفاوض حول شكل جديد من التسوية
وقال كشادة إن "الإمارات كدست مئات الأطنان من الأسلحة في معسكرات حفتر الذي لم يعد يسيطر على قرار قادة مليشياته، ما يعني أن تلك الأسلحة في مهبّ الريح، وإمكانية استخدامها من قبل تلك المليشيات ضد بعضها أمر مرجَّح". ويلفت كشادة من جانب آخر إلى أن "عدم مقدرة صالح على فرض نفسه وتحشيد موقف القبائل حوله، سيخلق قريباً حالة كبيرة من الفراغ، لن يتمكن كلّ حلفاء حفتر من تطويقها والسيطرة عليها".
ويشير الباحث السياسي إلى أن التفاهمات الجارية حالياً بين أنقرة وموسكو بشأن تسوية الأوضاع الميدانية وتقاسم السيطرة على مناطق النفود الاستراتيجية المتعلقة بمصالح الأطراف المتدخلة في ليبيا، تواجهها عرقلة حقيقية تتمثل بمن يمثل معسكر شرق ليبيا سياسياً، في حال وصول الأوضاع إلى مرحلة التفاوض حول شكل جديد من التسوية، سواء على أساس مخرجات برلين أو على أساس إحياء اتفاق الصخيرات.
ولا يرجح كشادة أن تكون حالة الفراغ السياسي والعسكري في شرق البلاد عاملاً مساعداً يشجع "حكومة الوفاق" على السيطرة عليها، خصوصاً أن مليشيات حفتر تتألف من أبناء قبائل شرق ليبيا الذين قُتل الآلاف منهم خلال الحرب الأخيرة على طرابلس، ما يعني رفضاً قبلياً مطلقاً لسلطة "الوفاق"، كذلك فإن الأخيرة لا تتمتع بقوة كافية لبسط سيطرتها على كامل البلاد، ما يعني ضرورة التحالف مع قوات المناطق.
ويسيطر النفوذ القبلي على أجزاء شرق البلاد ووسطها. ووسط حالة الفراغ، يرجّح المدهون عودة النزاعات القبلية على الأراضي المتنازع عليها، ومنها الصراعات المعروفة بين الزوية والتبو التي تعيش في مناطق تماس من الكفرة جنوباً وحتى أجدابيا شمالاً، وغير بعيد خلافات كبيرة بين قبائل أخرى دعمت حفتر لإضعاف قوة قبائل العواقير وسيطرتها على بنغازي ومحطيها، وإضعاف قوة قبائل المغاربة وسيطرتها على منطقة الهلال النفطي وسط البلاد.