20 نوفمبر 2024
"الإرهاب البوذي"
ارتبطت الديانة البوذية في أذهان ناس كثيرين بأنها مسالمة وغير عنيفة، حيث تحث تعاليم بوذا أتباعه على الشفقة والرحمة والتعاطف بين الناس، والرأفة بكل المخلوقات عباداً وكائنات. وأحد أبرز قيم الديانة البوذية النهي عن العنف، وهذه هي الصورة الغالبة التي ترسّخت لدى الناس عن البوذية، باعتبارها دين التأمل والتسامح واللاعنف ونبذ العدوانية. كما أن صورة شخصية الدالاي لاما، وتعني الكلمة "بحر العلوم" أو "بحر الحكمة"، تحولت إلى رمز للبوذيين في عالمنا اليوم، وإلى ما تدعو إليه ديانتهم من سلمٍ ومحبة وتسامح، وبات يُعد أحد أبرز الشخصيات الروحية الكبرى التي تحظى بالاحترام على الصعيد العالمي كله، ما أهّله للحصول على جائزة نوبل للسلام.
لكن خلف صورة الدالاي لاما المبتسم والضاحك دائماً، ووراء تعاليم بوذا التي تنشد المحبة والتسامح بين الناس، توجد للديانة البوذية، أو من يمثّلها، أو يدّعي تمثيلها، صورة أخرى تختزل وجه العنف الذي يُرتكب باسم هذه الديانة والتي هي، مثل كل الأديان، لم تسلم من وجود متطرّفين في صفوفها، وتيارات راديكالية تتبنّى العنف وتبرّره باسم قيم الدين نفسه الذي تدّعي تمثيله والذود عن حياضه. وبالنسبة للحركات البوذية العنيفة، أو التي تتبّنى خطاب الكراهية ضد الديانات الأخرى، خصوصاً الإسلام، نجد لها اليوم نماذج في بورما وسريلانكا، وكلاهما توجد فيهما أقلية مسلمة، أغلب أفرادها مسالمون، وهو ما يبعث أكثر من سؤال حول أسباب هذا العنف البوذي المتنامي ضد الأقلية المسلمة بالدرجة الأولى.
في سريلانكا، تعادي إحدى الجماعات البوذية التي يتزّعمها رهبان متطرفون المسلمين فقط بسبب طريقة ونمط عيشهم، فهم يؤاخذون عليهم طريقة ذبحهم المواشي على الطريقة
الإسلامية، ويشتكون من تزايد عددهم. وفي بورما (ميانمار)، ظهرت جماعة بوذية متطرّفة تطلق على نفسها اسم "969"، وهي أرقام رمزية مستوحاة من تعاليم بوذا. والخطير في هذه الحركة أنها تخصّ بعدائها المسلمين دون غيرهم، وتدعو إلى محاربة الإسلام، من أجل الحفاظ على الديانة البوذية، لأنها تدّعى أن الإسلام يهدف إلى القضاء على ديانتهم. ويقود هذه الحركة آشين ويراثو وهو راهبٌ متطرفٌ سبق له أن قضى عقوبة بالسجن، بعد إدانته بالتحريض على الكراهية الدينية، قبل أن يفرج عنه عام 2012، وهو يصف نفسه بأنه "بن لادن بورما"، ولا يُخفي إعجابه بشخصية أسامة بن لادن، على الرغم من العداء العقائدي الكبير بين الرجلين. وقد سبق لمجلة التايم الأميركية أن وصفته بأنه "وجه الإرهاب البوذي"، "وهتلر بورما"، وحركته هي التي قادت وتقود المذابح ضد مسلمي روهينغا، أي المنتمين إلى عرق الروهنغية، وهو العرق الوحيد الذي يدين المنتمون له بالإسلام في بورما، وأغلبيتهم يقيمون في إقليم أراكان (أو راخين).
وخلال خمس سنوات فقط، قتلت حركة هذا الراهب المتطرّف مئاتٍ من المسلمين، وقامت بإحراق قرى بكاملها وترحيل آلاف من سكانها، وتدمير 16 مسجداً وإغلاق عشرات المدارس، وسبب كل هذا العنف خطابٌ متطرّف يحرّض على الإسلام، ويحقد على المسلمين، لأن من بينهم تجاراً ناجحين في مجتمع يمثلون فيه 4% من سكانه البالغين 55 مليون نسمة. ويقوم هذا الخطاب العنصري على ترويج الحقد والكراهية ضد المسلمين، عندما يخوف البوذيين بأن الإسلام سيمحو ديانتهم بسبب كثافة النسل عند الأسر المسلمة، وزواج المسلمين من نساءٍ بوذياتٍ يصبح أبناؤهن مسلمين، بينما تمنع الديانة الإسلامية على المسلمة الزواج من غير المسلم.
وعبر التاريخ البوذي البعيد الذي يعود إلى ما قبل 2500 عام، وعلى الرغم من أن تعاليم الديانة البوذية تتنافى مع كل أفكار العنف، إلا أن الرهبان البوذيين المتطرّفين كانوا دائماً يتحالفون مع الملوك الذين يجسّدون السلطة والغلبة والقوة ليمنحوهم الحماية، وفي المقابل يمنحهم الرهبان الشرعية الدينية للحكم، والشرعية الدينية لخوض حروبهم المدمرة باسم حماية الهوية الدينية البوذية. وفي بورما، استعمل مجتمع الرهبنة (500 ألف راهب) سلطتهم الأخلاقية لقيادة احتجاجاتٍ سلميةٍ ضد حكم العسكر عام 2007، لكنهم عادوا إلى التحالف مع النظام العسكري نفسه الذي مازال يحكم البلاد من تحت الستار بيد من حديد، على الرغم من وجود حكومةٍ مدنيةٍ منتخبةٍ، تمثلها زعيمة المعارضة السابقة ورئيسة الوزراء حالياً، أون سان سو تشي، التي يؤاخذ عليها العالم صمتها ضد المجازر التي ترتكب ضد مسلمي الروهينغا، وعدم إدانتها هذه الأعمال التي تتكرّر في بلادها منذ عام 2012، وربما هي تلتزم الصمت، حتى لا تزعج المؤسسة العسكرية التي تظل هي نفسها سليلتها، فهي ابنة أحد الجنرالات الذين حكموا البلاد، قبل أن ينقلب عليه زملاؤه.
وخلاصة القول إن العنف البوذي لا يختلف عن أيٍّ من أشكال العنف الذي يمارسه متطرّفون
من كل الديانات، يلجأون إلى عقائدهم الدينية لممارسته وتبريره. ولكن في كل تغطيات وسائل الإعلام الغربية، بل حتى العربية، لا يُشاهد من حاول إلصاق العنف الممارس ضد الروهينغا بالديانة البوذية، أو يُسمع أو يُقرأ عنه، على الرغم من أن أصحاب هذا الأمر لا يخجلون في ممارسته وتبريره بكلماتٍ وعباراتٍ حاقدة على الإسلام، دفاعاً عن الهوية البوذية. وأرى أن هذا هو عين العقل، ففي عام 2012، عندما أحرق بوذيون متطرّفون قرية كان يسكنها مسلمو الروهينغا، تطوّع راهبٌ بوذيٌّ لحماية المسلمين الفارّين من المذبحة، فليس كل البوذيين متطرفين أو إرهابيين، ولا علاقة لدينهم بما يمارسه بعض منهم باسمه.
ولنتخيل ماذا لو أن العكس هو ما حصل، أي أن جماعة إسلامية متطرّفة أتت بمثل هذه الأفعال الشنيعة التي ارتكبها البوذيون المتطرفون في بورما ضد الأقلية المسلمة، هل كان العالم سيتأخر كل هذه الأسابيع، وهو يتابع واحدة من أكبر المآسي الإنسانية التي تشبه مجازر بوروندي ليدينها؟ هل كان الإعلام الغربي سيرفض ربط ما يقع بالدين الذي يبرّر به أصحابه فعلهم الشنيع هذا؟
المفارقة في ما يحصل اليوم في بورما من جرائم، ترقى إلى أن تُصنّف "جرائم ضد الإنسانية"، أن الإعلام الغربي والعربي يتحدثان عن ديانة الضحية، وينسون دين الإرهابي الذي يمارس باسمه عُنفه. والمفارقة الأكبر أن بعض العرب "المتياسرين"، وبعض الإعلاميين المطبّلين لأنظمة دكتاتورية في المنطقة العربية، مازالوا يشكّكون في صحة هذه الكارثة التي دفعت حتى اليوم بترحيل أكثر من 300 ألف من الروهينغا من قراهم، في أكبر حملة تطهير عرقي يشهدها القرن الحالي، والسبب أن أولئك يعتبرون الروهينغا، عن جهل فاضح، إسلاميين متطرفين!
كشفت هذه الأزمة، بكل مآسيها، عن الوجه الآخر للنفاق الغربي وازدواجية خطاب إعلامه. وأكدت، في الوقت نفسه، لمن مازال يحتاج إلى تأكيد، أن العنف يمكن أن يمارس باسم كل ديانة، وهي بريئة منه، وقد حان الوقت لوقف إلصاق العنف، باعتباره حالة مرضية، بديانة أصحابها أو من يدّعون أنهم يمارسونه أو يبرّرونه باسم دينهم المفترى عليه.
لكن خلف صورة الدالاي لاما المبتسم والضاحك دائماً، ووراء تعاليم بوذا التي تنشد المحبة والتسامح بين الناس، توجد للديانة البوذية، أو من يمثّلها، أو يدّعي تمثيلها، صورة أخرى تختزل وجه العنف الذي يُرتكب باسم هذه الديانة والتي هي، مثل كل الأديان، لم تسلم من وجود متطرّفين في صفوفها، وتيارات راديكالية تتبنّى العنف وتبرّره باسم قيم الدين نفسه الذي تدّعي تمثيله والذود عن حياضه. وبالنسبة للحركات البوذية العنيفة، أو التي تتبّنى خطاب الكراهية ضد الديانات الأخرى، خصوصاً الإسلام، نجد لها اليوم نماذج في بورما وسريلانكا، وكلاهما توجد فيهما أقلية مسلمة، أغلب أفرادها مسالمون، وهو ما يبعث أكثر من سؤال حول أسباب هذا العنف البوذي المتنامي ضد الأقلية المسلمة بالدرجة الأولى.
في سريلانكا، تعادي إحدى الجماعات البوذية التي يتزّعمها رهبان متطرفون المسلمين فقط بسبب طريقة ونمط عيشهم، فهم يؤاخذون عليهم طريقة ذبحهم المواشي على الطريقة
وخلال خمس سنوات فقط، قتلت حركة هذا الراهب المتطرّف مئاتٍ من المسلمين، وقامت بإحراق قرى بكاملها وترحيل آلاف من سكانها، وتدمير 16 مسجداً وإغلاق عشرات المدارس، وسبب كل هذا العنف خطابٌ متطرّف يحرّض على الإسلام، ويحقد على المسلمين، لأن من بينهم تجاراً ناجحين في مجتمع يمثلون فيه 4% من سكانه البالغين 55 مليون نسمة. ويقوم هذا الخطاب العنصري على ترويج الحقد والكراهية ضد المسلمين، عندما يخوف البوذيين بأن الإسلام سيمحو ديانتهم بسبب كثافة النسل عند الأسر المسلمة، وزواج المسلمين من نساءٍ بوذياتٍ يصبح أبناؤهن مسلمين، بينما تمنع الديانة الإسلامية على المسلمة الزواج من غير المسلم.
وعبر التاريخ البوذي البعيد الذي يعود إلى ما قبل 2500 عام، وعلى الرغم من أن تعاليم الديانة البوذية تتنافى مع كل أفكار العنف، إلا أن الرهبان البوذيين المتطرّفين كانوا دائماً يتحالفون مع الملوك الذين يجسّدون السلطة والغلبة والقوة ليمنحوهم الحماية، وفي المقابل يمنحهم الرهبان الشرعية الدينية للحكم، والشرعية الدينية لخوض حروبهم المدمرة باسم حماية الهوية الدينية البوذية. وفي بورما، استعمل مجتمع الرهبنة (500 ألف راهب) سلطتهم الأخلاقية لقيادة احتجاجاتٍ سلميةٍ ضد حكم العسكر عام 2007، لكنهم عادوا إلى التحالف مع النظام العسكري نفسه الذي مازال يحكم البلاد من تحت الستار بيد من حديد، على الرغم من وجود حكومةٍ مدنيةٍ منتخبةٍ، تمثلها زعيمة المعارضة السابقة ورئيسة الوزراء حالياً، أون سان سو تشي، التي يؤاخذ عليها العالم صمتها ضد المجازر التي ترتكب ضد مسلمي الروهينغا، وعدم إدانتها هذه الأعمال التي تتكرّر في بلادها منذ عام 2012، وربما هي تلتزم الصمت، حتى لا تزعج المؤسسة العسكرية التي تظل هي نفسها سليلتها، فهي ابنة أحد الجنرالات الذين حكموا البلاد، قبل أن ينقلب عليه زملاؤه.
وخلاصة القول إن العنف البوذي لا يختلف عن أيٍّ من أشكال العنف الذي يمارسه متطرّفون
ولنتخيل ماذا لو أن العكس هو ما حصل، أي أن جماعة إسلامية متطرّفة أتت بمثل هذه الأفعال الشنيعة التي ارتكبها البوذيون المتطرفون في بورما ضد الأقلية المسلمة، هل كان العالم سيتأخر كل هذه الأسابيع، وهو يتابع واحدة من أكبر المآسي الإنسانية التي تشبه مجازر بوروندي ليدينها؟ هل كان الإعلام الغربي سيرفض ربط ما يقع بالدين الذي يبرّر به أصحابه فعلهم الشنيع هذا؟
المفارقة في ما يحصل اليوم في بورما من جرائم، ترقى إلى أن تُصنّف "جرائم ضد الإنسانية"، أن الإعلام الغربي والعربي يتحدثان عن ديانة الضحية، وينسون دين الإرهابي الذي يمارس باسمه عُنفه. والمفارقة الأكبر أن بعض العرب "المتياسرين"، وبعض الإعلاميين المطبّلين لأنظمة دكتاتورية في المنطقة العربية، مازالوا يشكّكون في صحة هذه الكارثة التي دفعت حتى اليوم بترحيل أكثر من 300 ألف من الروهينغا من قراهم، في أكبر حملة تطهير عرقي يشهدها القرن الحالي، والسبب أن أولئك يعتبرون الروهينغا، عن جهل فاضح، إسلاميين متطرفين!
كشفت هذه الأزمة، بكل مآسيها، عن الوجه الآخر للنفاق الغربي وازدواجية خطاب إعلامه. وأكدت، في الوقت نفسه، لمن مازال يحتاج إلى تأكيد، أن العنف يمكن أن يمارس باسم كل ديانة، وهي بريئة منه، وقد حان الوقت لوقف إلصاق العنف، باعتباره حالة مرضية، بديانة أصحابها أو من يدّعون أنهم يمارسونه أو يبرّرونه باسم دينهم المفترى عليه.