قال عنهم "هم الكلاب"، عنوان فيلمه الروائي الطويل الثاني (2013). وفي جديده، يتساءل "لماذا تشم الكلاب مؤخرات بعضها بعضاً أول ما تلتقي؟". سؤال لن نلقى له إجابة في فيلم المخرج المغربي هشام العسري "البحر من ورائكم" (عُرض عالمياً للمرة الأولى في الدورة الأخيرة من "مهرجان دبي السينمائي الدولي")، وهو يعود فيه إلى الأبيض والأسود كما أول أفلامه الطويلة "النهاية" (2011) الذي جاء على الصعيد الفني عكس "النهاية" مشكّلاً بداية مدهشة.
للعسري أن يأخذ المشاهد من اللقطة الأولى في الفيلم، فنحن في "البحر من ورائكم" في بلد لا ألوان فيه، وقد تلوّثت المياه وأصيبت بـ"البق"، والكاميرا محمولة تلاحق رجلاً من الخلف في طريقه إلى عراك وقد اجتمع اثنان على ضرب رجل مرمي على الأرض. سيتوقف كل شيء حين تنكسر زجاجة على الأرض، حينها سينزع أحد المارة سترته ويمسح بها ما أهرق، ومن ثم يعصرها في فمه في لقطة مقرّبة (كلوز أب).
إنه طارق (مالك أخميس)، من كان يتعرض للضرب، وها هو جالس في مقهى إلى طاولة وأمامه فنجان وقطرات من دمه تسقط في السائل الذي يحتويه. ولنقع عليه بعدئذٍ مقيداً إلى قضبان سجن يتعرض للتحقيق. اللقطة التي ستكون لازمة الفيلم، والمنطلق لحركيته العالية وسرده الخاص والتنويع في المفردات البصرية التي يوظفها العسري في أسلوبية خاصة، لها أن تضعنا أمام تهتك كل شيء. وطارق يصرخ بأنه رجل، وهو كذلك وله شاربان، لكنه يرتدي ثياب الراقصات ويضع المكياج ويرقص على سطح عربة يجرها "العربي"، اسم حصان والده الذي يطالعنا من البداية وقد حرُنَ وتوقف عن جرّ العربة.
"العربي" الذي ما عاد قادراً على التقدم خطوة واحدة إلى الأمام، وطارق عاجز عن قتله، وقد أمسى والده محطماً تماماً جراء ذلك، لا يملك أن يفعل لـ "العربي" سوى أن يمشط شعره بطقم أسنانه.
إنه العبث أيضاً، إذ لا شيء يحدث، وكل ما حدث آتٍ من ماضٍ قريب وبعيد. ما من ألوان، والمياه ملوثة، وطارق عاجز عن الفرح والحزن وأي من العواطف، هو الذي لم يبكِ ولديه وقد قتلهما جاره رجل الأمن، بعد أن قام هذا الأخير بغواية زوجته. وهو عاجز أيضاً عن قتله، كما أن تشبّهه بالنساء لم يجعل منه مثلياً رغم أنه يُنعت بذلك، وهناك من هو غارق بحبه.
البحر الذي من ورائنا يقود مباشرة إلى أن العدو من أمامنا، ومنا وفينا وفي ثنايا كل ما يسرده الفيلم، حيث كل شيء مدمّر ومشوّه، وبدل الحب يسود إتيان البهائم، و"لورد" عجوز بكامل أناقته وقبعته العالية، يلاحق طارق. وحين يواجهه هذا الأخير، لا يحظى إلا بغطاءَي علبة سردين يستخلصهما من القمامة للدفاع عن نفسه، فيتركه ذلك الرجل ويمضي للتبول في مرحاض متروك في الشارع، فيقوم طارق بحز وريده من دون أن ينجح في ذلك.
فيلم "البحر من ورائكم" محمّل بالكثير، والحديث عن الأسلوب هو حديث عن الشكل بالضرورة، من دون اعتبار الشكل وعاءً للمضمون. ففيلم العسري يدفع للتفسير الوظيفي على اعتبار الشكل والمضمون متلازمين وفي علاقة تبادلية بينهما. فما من مشهد في الفيلم وإلا ومؤسّس على بنية بصرية تستوفي عناصرها الجمالية شكلاً ومضموناً، ليجتمع كل ذلك في بناء سينمائي يتبع الوظيفة التي يؤديها الفيلم في إحالات مسكونة بالمجازات. كما أن التقطيع المونتاجي يبتر اللقطات ولا يدع للمشهد أن يتواصل بعد أن يكون قد نجح في صياغة تجربة إدراكية دامغة.
يكشف العسري في "البحر من ورائكم"، من البداية، عن هدف الفيلم ومساره ولعبته السردية. ويكتفي تماماً بالرهان على المستويات المتعددة لحركة الكاميرا والاستثمار في المفردات البصرية والممثلين وتكوين الشخصيات وأزيائها والتنويع في تشكيل مواقع التصوير، بحيث يكون ناجحاً تماماً بتحميل كل عنصر من عناصر ما نشاهده بالمفاجآت والاكتشافات. وبالتالي، فإنه لا يحتفظ بمفاجآت للنهاية إلا إذا اعتبرنا بكاء طارق في النهاية وعودة الألوان جراءها مفاجأة.
ففي فيلمه الأول، "النهاية"، سيمهد كل ما في الفيلم من جرعات عنف وقتل لنهايته، أي وفاة الملك الحسن الثاني، كما أنه سيجعل "الربيع العربي" في ثاني أفلامه "هم الكلاب" متصلاً بالماضي ومتشكلاً وفقه ونحن نكتشف أن "مجهول" (شخصية الفيلم الرئيسة) ليس إلا معتقلاً لمشاركته في "انتفاضة الخبز" التي كانت تطالب بالإصلاح والتغيير في المغرب عام 1981.
ستكون "السلطة" معبراً أكيداً لمعاينة كل ما نشاهده في فيلم "النهاية"، إذ إن أعتى تجليات العنف تأتي من رجل الأمن، بينما القيود حاضرة على الدوام، والعاشق يعمل في موقف سيارات مدفوع الأجر، يطبق على العجلات بالقيود، ومعشوقته مقيدة بالسلاسل من قبل إخوتها الذين يظهرون كما لو أنهم فتية كوبريك في "البرتقالة الآلية" أو "غانغستر" خارج من رحم "الكوميك"، يقومون بسرقة علب الحلوى وأتفه الأشياء، ليكون الجميع ضحايا السلطة المطلقة.
"البحر من ورائكم" أقرب إلى فيلم "النهاية" لأن التنويع في السرد حاضر بقوة مدهشة في كليهما، بينما يقتصر التجريب في "همّ الكلاب" على الكاميرا المحمولة، ما يجعله محتكماً على أبعاد تسجيلية؛ إذ إن اكتشاف حياة "مجهول" ستأتي من خلال طاقم تصوير تلفزيوني يتورط في الكشف عن حياته، وحلّ اللغز الذي يشكله بالنسبة إليهم، وهو يحمل في يده عجلة دراجة صغيرة خرج ليصلحها ولم يعد.
ليست الإحالة إلى طارق بن زياد في "البحر من ورائكم" فعل حنين إلى زمن مضى ولن يعود، لا بل هي مساحة للمفارقة، ومجال حيوي لاجتراح كل ما يتناقض وما تأسس عليه التاريخي بوصفه أسطورياً؛ ولن يكون ظهوره "التاريخي" إلا وجيزاً، حين يخرج لطارق - النسخة الحديثة من طارق بن زياد إن صح الوصف - وهو محبوس في صندوق سيارة رجل الأمن. حينها سيسأله "الصبر"، بينما يشعل طارق أعواد الثقاب ليرى طارق بن زياد من دون سيف، وليقدّم له أداة من الأدوات التي يحتويها صندوق السيارة، ليمزق بها "طارق المعاصر" ما يفصل الصندوق عن المقعد الخلفي، ويخرج من السيارة كما لو أنه يولد من جديد، من دون أن يتخلى عن سؤاله الجوهري عن الكلاب.. السؤال الذي يبقى متواصلاً ومتردداً في أرجاء الفيلم.