"الجريمة الحقيقية" موضوعاً أدبياً
لطالما شكّلت الأحداث المتفرقة والجرائم المحلية التي تنشرها الصحف والمجلات في باب خاصّ موضوعات يستوحي منها الكتّاب مادتهم الروائية والقصصية، إما لأن أبطالها أشخاص عاديون، لا يدلّ شيء في تاريخهم الشخصي، أو في تربيتهم، على إمكانية تحوّلهم إلى ضحايا جرائم وجنح، أو إلى مرتكبيها، أو لأن الجريمة المرتكبة تكشف عن ضيقٍ يعيشه المجتمع إياه، أو عن حالة اجتماعية وإنسانية معينة، تستدعي أسئلة حول العصر نفسه. هذا ناهيك عن فكرتي الخير والشر، والجريمة والعقاب، المعبّرتين بأفضل ما يكون عن سؤالٍ وجوديٍّ أبديٍّ ما انفكّ يطارد الإنسان منذ أولى لحظات وعيه.
الأمثلة في الأدب العالمي عديدة، حتى إنه تم استنباط مسمّى جديد في تصنيف هذه الأعمال: "true crime" أو الجريمة الحقيقية، وهو نمط أدبي دارج جداً في البلاد الأنغلوسكسونية عامة، وفي الولايات المتحدة تحديدا، حيث اهتم كتاب كبار ومعروفون بهذا النوع (ترومان كابوت، نورمان ميللر). في فرنسا، اهتم بعض أكبر الكتّاب بالجريمة الواقعية (أندريه جيد وكلود سيمون)، لكن لم يُنظر إلى هذا النوع نظرةً إيجابية، بوصفه بقي متدنّياً مقارنة بالأدب الرفيع. ومع ذلك، ثمة ما حدث أخيراً، وأقنع مانحي الجوائز الأدبية الأرفع في فرنسا بالالتفات إلى أعمالٍ من هذا النوع، فقد مُنحت جائزة غونكور إلى الكاتبة المغربية الأصل، ليلى سليماني، عن روايتها ""أغنية هادئة"، وأُعطيت جائزة مديسيس الأدبية إلى المؤرخ أندريه جابلون عن كتابه "ليتيسيا"، ومديسيس للأدب الأجنبي للصحافي والروائي السويدي، ستيف سام ساندبرغ، عن روايته "المختارون" التي تناول فيها البرنامج النازيّ للقضاء على الأطفال المعوقين، في فيينا عام 1941، داخل مصحّةٍ هي أقرب إلى جحيم أرضيٍّ، حيث يتمّ تحويل الأطفال إلى "فئران مختبر"، تنتهي التجارب بقتلهم.
الروايات الثلاث، إذا صح التعبير، لأن "ليتيسيا" ليست رواية، تتناول جرائم ارتكبت بحق أطفال، وشكّلت صدمة للرأي العام لدى اكتشافها.
استلهمت ليلى سليماني عملَها من حادثةٍ حقيقيةٍ وقعت في أميركا، حين أقدمت مربية أطفال بورتوريكية على قتل طفليْ العائلة التي استخدمتها للعناية بهما. إلا أنها جعلتها في باريس مع عائلةٍ من البرجوازية الجديدة، مؤلفة من والدين، يحبان ولديهما، لكنهما أيضا طموحان مهووسان بالنجاح مهنيا واجتماعيا. تختار المرأة والرجل المربية "لويز"، ويتعلقان بها، كونها ستتكشّف مثالاً للمربيّة المحبّة المتفانية، فهي لا تسهر على راحة الطفلين وحسب، وإنما على راحة والديهما أيضا. قبل أشهر من ارتكابها الجريمة المزدوجة، سوف نتابع مسار لويز، المنزلقة تدريجياً في وحدةٍ مخيفةٍ وشعور عميق بالذل، سيوديان بها إلى الجنون. تقول سليماني: "ولدت في المغرب، حيث توجد إلى اليوم مربياتٌ في المنازل، وأناس يخدمون ويعيشون لديك. لطالما شغلتني الطريقة هذه في أنهم غرباء وأقرباء في الآن نفسه، وتلك المكانة الخاصة التي يشعلونها... أردت أن استكشف مادة الإذلال المحتمل، من دون اعتبارها سبباً ممكناً للجريمة، لأنني لا أؤمن بذلك".
تناول المؤرخ إيفان جابلونكا حادثة قتل الشابة ليتيسا بيرّيه في يناير/ كانون الثاني 2011، حين طعنها قاتلها وخنقها وقطّعها، ودفن أعضاءها في أماكن متفرقة، هي البالغة حينها 18 عاما. ومن خلال التحقيق الذي أجراه حول حياة ليتيسيا الخاصة، أراد جابلونكا إرجاعها إلى الحياة، وإعادة الاعتبار إليها، بعد أن تحولت حادثة مقتلها إلى قضيةٍ سياسيةٍ، استحوذ عليها الرئيس ساركوزي آنذاك، متّهما القضاء بالإهمال، ما أدّى إلى إضراب جسم القضاء الفرنسي كله اعتراضا. من خلال تناوله هذه الواقعة، أراد جابلونكا أن يلقي الضوء على حيوات الأطفال المهملين المتروكين لمصائرهم، وعلى العنف الذي يطاولهم، ويطاول النساء في مجتمعاتٍ تدّعي أنها تخلّصت من كل تلك الآفات المجتمعية.
عرفت ليتيسيا العنف باكراً. اغتصب أبوها مدمن الكحول والدتها، وهي في الثالثة، ثم انتزعت هي وأختها التوأم من عائلتهما في سنّ الثامنة، لتوضعا في مؤسساتٍ اجتماعية، إلى أن تستقبلهما عائلة مضيفة، إلا أن مفاجأة أخرى ستكشف أن الوالد بالنيابة كان وحشاً هو الآخر، يتحرّش جنسيا بالأختين، ما يعني أن ليتيسيا تعرّضت للاغتصاب من القاتل ومن والدها بالنيابة أيضا...