أغلق "معرض الجزائر الدّولي للكتاب" أبوابه وأجنحته، بعد عشرة أيام، مسروقة من الحلم لدى البعض، ومن التعب لدى آخرين، وكان كلا الطرفين خاضعاً لـسلطة التقشّف، الذي فُرض فجأةً على الفضاء الجزائري، بسبب هبوط أسعار النّفط في الأسواق العالمية.
تجلّت روح التقشّف، بالمقارنة مع الدورات السّابقة، لدى الناشرين، في بساطة عدد العناوين الجديدة، التي نشروها في ظلّ اختفاء الدّعم الحكومي. فمعظمهم اكتفى بعرض عناوين قديمة، وتخلّى عن أمتار من مساحة الجناح، حتى يخفّف من تكاليف الإيجار، بل إن بعضهم تخلّى عن مساعديه من الشّباب، في عملية البيع والتفاعل مع الزوّار، وتولّى الأمر بنفسه. لو أتيح لنا أن نحصل على صور النّاشر الجزائري في الدورات السّابقة، وهو يستقبل زوّاره، وصوره خلال هذه الدّورة، لأمكننا أن نلاحظ انحسار ابتسامه وكلامه، في مقابل ازدياد منسوب الشّكوى لديه.
هل سنشهد اختفاء دور نشر معيّنة في المستقبل؟ سؤال طرحه "العربي الجديد" على الرّوائي كمال قرور صاحب دار "الوطن اليوم"، التي كانت من الدّور الحاضرة بعشرات العناوين الجديدة، بعيداً عن الدّعم الحكومي. يقول قرور: "لطالما غفلنا عن طبيعة الدّعم، الذي كان معتمداً من طرف وزارة الثقافة، إذ تدعم كتاباً معيّناً، فيطبع منه الناشر ما لا يزيد عن 1000 نسخة، يعطي بعضها للكاتب وبعضها للمكتبة الوطنية، ويركن الباقي في مخازنه، من غير أن يعمل على إيصاله إلى القارئ، أو الترويج له إعلامياً. لماذا يفعل ذلك مادام قد صبّ معظم مبلغ الدّعم في جيبه؟".
يتابع صاحب رواية "الترّاس": "لقد كان دعماً للناشر، ولم يكن للقارئ، من خلال تخفيض أسعار الكتاب، أو للكاتب، من خلال رفع قيمة المستحقّات. وهو ما أسّس لظاهرة النّاشر الطفيلي، الذي لا يتحرّك خارج الطمع في الدعم الحكومي. بل إن هناك عشرات الدّور حملت أسماء أصحابها، ولم تتضمّن قائمة منشوراتها إلا كتبهم".
من هنا، يرى قرور أن انسحاب الدّعم الحكومي للنشر في الجزائر، سيعمل على تنقية القطاع من الطفيليين، فلا يبقى، بحسبه، إلا الناشر الحقيقي وأصحاب المشاريع الحقيقية، مذكّراً بالحكمة العربية القائلة "ليست النّائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة"، وداعياً وزارة الثقافة إلى إعادة دعم الكتاب، وفق رؤية جديدة تجعل ثماره تذهب إلى الخماسي الشريك: القارئ والكاتب والمكتبي والموزّع والناشر.
تجلّيات التقشّف تظهر أيضاً في سلوك زائر المعرض، حيث نلاحظ أن مكوث معظم الأسر خارج قاعات العرض، للتنزّه والحديث والتقاط الصّور، كان أكثر من مكوثها داخلها. تقول نعيمة حسّاني، وهي تمسك بيد ابنتها مخافة أن تفقدها في الزّحام، إنها لم تشتر إلا ثلاثة كتب "من باب البركة"، بالنظر إلى تراجع قدرتها الشرائية، "لم يمنعني ذلك من زيارة المعرض، فقد بات طقسي السّنوي المفضّل، ولكنّني لن أكلّف نفسي ما لا أطيق، فقد استنزفت مناسبات كثيرة جيبي". تسأل: "لماذا لا ينقلون موعد تنظيم المعرض إلى بداية السّنة، حيث يكون جيب المواطن قد ارتاح قليلاً من مخلّفات المناسبات المتقاربة؟".
من جهته، يقول المدوّن مسعود قايدي إنه لا يحقّ لوزارة الثقافة أن تفخر بعدد الزوّار، الذي قالت إنه يكاد يساوي عدد شهداء ثورة التحرير، وهي الموضوعة البارزة في ندوات البرنامج الأدبي والفكري المرافق للمعرض، "لأن هذه الأعداد أصرّت على المجيء رغم سوء الخدمات المقدّمة، منها قلّة المطاعم والمقاهي والحمّامات ومواقف السّيارات. يضيف: "قبل أن تعاملونا بصفتنا رقماً، عاملونا بصفتنا أفواهاً من حقها أن تجد أين تأكل وتشرب، وبطوناً من حقها أن تجد أين تقضي حاجتها، وأسراً من حقها أن تجد أين تركن مركباتها. لقد باتت الندرة في هذه الأبواب تسمّم متعتنا بمعرض الكتاب".
في الوقت الذي كانت فيه معظم دور النّشر الجزائرية تستجدي قارئاً، ولا تبيع خارج معارف الكتّاب الذين نشرت لهم، كانت دار نشر صغيرة ظهرت للمرّة الأولى، ولم تتمكّن من الحصول على أكثر من 12 متراً مربّعاً، تستقبل مئات القرّاء، كلهم من الجيل الجديد، الذي يقول الجميع إنه لا يملك علاقة بالكتاب والقراءة. إنها دار "الجزائر تقرأ" لصاحبها المدوّن قادة زاوي، وهي مبادرة بدأت قبل سنتين في موقع فيسبوك، حيث تجاوز عدد المنخرطين في صفحتها 300 ألف عضو.
قدّمت الدار التي حملت شعار "نصيبكم بعدوى القراءة"، كتباً في الرّواية والقصّة والشّعر والسّيرة الذّاتية، لكتّاب نشر معظمهم للمرّة الأولى. مع ذلك فقد نفدت الطبعة الأولى لمعظم العناوين مباشرة بعد الافتتاح، وهي ظاهرة لم تكن تحدث من قبل، إلا في حالات قليلة تعلّقت بالكتّاب "النجوم".
لفتت الظاهرة الكتّاب والإعلاميين والناشرين الجزائريين والأجانب، فكانوا يصعدون إلى الطابق العلوي، حيث توجد الدّار، ليلقوا نظرة على هذه "الظاهرة". قال الكاتب منير سعدي، الذي باع 200 نسخة في جلسة واحدة، رغم أنه ينشر للمرّة الأولى، لناشر طرح هذا السّؤال: ما يحدث هو أن هناك ناشراً شابّاً وكاتباً شابّاً وقارئاً شابّاً انسجموا مع اللحظة العصرية القائمة وواكبوها، بالاستثمار في الوسائط الحديثة. أضاف: "نحن بصدد جيل جديد من الناشرين الشباب، الذين يعرفون كيف يصنعون قرّاءهم، ولا ينتظرون الدّعم الحكومي".
في جناح القصبة، غير بعيد عن الجناح الرئيسي، وجدت دار نشر شبيهة، مع الفارق في جودة الطباعة والتصميم، هي دار "المثقف"، القادمة من محافظة باتنة (600 كيلومتر إلى الشرق من الجزائر العاصمة)، حيث التقى 84 روائياً وكاتباً نشروا للمرّة الأولى، وراحوا يوقّعون كتبهم لقرّاء من جيلهم، معظمهم مولود بعد عام 2000، ويتنافسون في التقاط الصّور والترويج لأنفسهم في فيسبوك.
وممّا رصده "العربي الجديد" أن هذا الجيل من الكتّاب ليس مهتماً بالتقاط الصّور مع الكتّاب المكرّسين والحديث عن كتبهم، وإبداء جرعة زائدة من الانبهار. يقول الكاتب عزيز بولطباق: لطالما فعلنا ذلك ولم نتلق منهم إلا البرود والتعالي، بل إن بعضهم يهتمّ بك مادمت مجرّد قارئ له ومبشّر به، فإذا أعلنت عن كونك نشرت كتاباً، تحوّلت إلى خصم في نظره.
دفعت هذه السّلطة المعنوية للجيل الجديد ببعض الأسماء المكرّسة إلى تجنّب التهمة بالحساسية من الأسماء الجديدة، إلى الطواف على طاولات توقيعها والتقاط صور معها ونشرها مع تعليقات توحي بالإعجاب. إنه زمن تحوّل الضّوء في المشهد الأدبي والثقافي الجزائري.