في أبريل/نيسان 2002 حاصرت دبابات إسرائيلية واقتحمت مدناً في الضفة الغربية الفلسطينية واحدة تلو الأخرى، في عملية عسكرية أسمتها "الدرع الواقي".
الحال في مدينة بيت لحم جنوبي الضفة آنذاك كان مختلفاً، حيث زاد عليه أن حاصرت قوات إسرائيلية، على مدى 39 يوماً، مقاتلين فلسطينيين تحصنوا في كنيسة المهد، أحد أقدم الأماكن الدينية في العالم.
بعد 13 عاماً على هذا الحصار، الذي احتل وقتها، مساحة كبيرة جداً من الاهتمام العالمي، يستعيد "مسرح الحرية" في مخيم جنين ذلك الحصار عبر عرض مسرحي، تحت اسم "الحصار"، مقدماً ما يتجاوز التوثيق المسرحي لتلك الملحمة البطولية الفلسطينية، التي انتهت بنتيجة مأساوية تمثلت في إبعاد مجموعة من المقاتلين إلى عواصم أوروبية.
"الحصار"، وبحسب مخرج العمل وكاتبه نبيل الراعي، هو توصيف ورؤية فنية لما جرى داخل الكنيسة من حصار لمجموعة من المقاتلين، برفقة أكثر من 200 شخص من الكهنة والرهبان والمدنيين، لكنها إضافة إلى ذلك تعبير عما يعانيه الوضع الفلسطيني، فهو "ما زال على حاله، فالفلسطيني يعيش في حصار أوسع سببه الاحتلال (الإسرائيلي)".
عن الهدف من العرض المسرحي الضخم، وتقديمه ضمن مجموعة من العروض داخل وخارج فلسطين، في ذكرى حصار كنيسة المهد، يقول الراعي لوكالة الأناضول، إن "المسرحية تهدف إلى التذكير بقصة المقاتلين التي لم تنته، بل بدأت حكاية أخرى أكثر ألماً بالابعاد القسري (لهؤلاء المقاتلين) عن الوطن الذي ناضلوا من أجله". وترفض إسرائيل عودة هؤلاء المبعدين.
قصص حقيقية
هذا العمل قام في بناء نصه المسرحي على مقابلات شخصية مصورة مع المقاتلين الفلسطينيين المبعدين، أجراها المخرج وبقية طاقم العمل في كل من اليونان وبريطانيا وإيرلندا وإيطاليا وإسبانيا، حيث تم الالتقاء بتسعة مبعدين من أصل 13 في أوروبا، وتسجيل قصصهم الشخصية في أحداث الكنيسة، وهو ما منح الكاتب والممثلين قصصاً حقيقية من أصحابها، ما جعل من العرض أكثر قوة ومتانة وتأثيراً في الجمهور.
اقرأ أيضا: مسرحية لبنانية من إنتاج فلسطيني تعرض في الجولان المحتل
ويتزامن العرض الأول لـ"الحصار" في "مسرح الحرية" بمخيم جنين مع ذكرى مجزرة المخيم (1 – 12 أبريل/ نيسان)، التي أودت بحياة أكثر من 60 فلسطينياً، ودمرت أكثر من ثلثي منازل المخيم.
وهو تزامن يقول الممثل أحمد الطوباسي، الذي قام بدورين محوريين في المسرحية هما دور المقاتل والكاهن عيسى، لوكالة الأناضول، إنه "مقصود ومخطط له، فالمسرحية تأتي كجزء من المقاومة الثقافية، التي يؤمن بها المسرح، ويعتقدون أنها طريقهم للتغيير مثل المقاتلين تماماً".
حيلة ذكية
المخرج الفلسطيني، الذي شاركته الإخراج البريطانية زوي لافرتي، اختار رؤية فنية مختلفة لعمله المسرحي التوثيقي، حيث استعان بشخصية الراوي الكاهن، الذي لعب دوراً في تقديم فصول المسرحية الثلاث، ففي حيلة ذكية يلعب الكاهن دور الدليل السياحي، الذي يقدم للزوار المعلومات التاريحية والدينية عن كنيسة المهد، مازجاً بين السياسي والديني من دون قصد، طالباً من الزوار المتخيلين الدخول على أجزاء الكنيسة ليكون بانتظارهم واقع حياة المقاتلين الفلسطينيين وأحلامهم وقصص صمودهم داخل الكنيسة.
واحتشد الجمهور في اليوم الأول (4 أبريل/ نيسان) والثاني والثالث من أيام عرض المسرحية، وهو ما لم يتوقعه القائمون عليها، فغص المسرح الضيق نسبياً (يسع فقط لحوالى 120 شخصاً) بجمهور متنوع بين الشباب والكبار والأطفال، فلسطينيين وأجانب، ليجدوا في انتظارهم عملاً مسرحياً متكاملاً ومعالجة درامية مليئة بالبطولة والألم والتضحية والأسئلة الشائكة.
مع تلك المعالجة، التي بدت متمكنة ومستمدة من توثيق استمر لاكثر من عام، بحسب المخرج الراعي، "تجولنا في أنحاء كثيرة وصورنا بوح المبعدين وسردهم لقصصهم كما عاشوها، وتمكنا من تقديم حكاية مشوقة لهؤلاء في محاولة للتذكير بقضيتهم".
ولتعميق ذلك اعتمد المخرج خيار مواجهة المقاتلين للجمهور بشكل مباشر عبر حديثهم، في ثلاث فواصل زمنية، تحدثوا خلالها بعفوية عن مشاعرهم وأحلامهم، وهي جمل نقلت مباشرة من المقاتلين المبعدين وكأنها رسائل إلى الجمهور.
من دون محاكمة
لـ 39 يوماً، استمر الحصار الإسرائيلي لكنيسة المهد، وشلت خلالها الحركة في بيت لحم، وبقى أكثر من 10 آلاف شخص تحت حظر التجول، وعانى المحاصرون داخل الكنيسة من الجوع والعطش وسوء الأحوال الصحية، واستهدافهم من قناصة الجيش الإسرائيلي.
وسط كل ذلك كان المقاومون الفلسطينيون بين خيارين، إما الاستسلام أو النضال حتى الشهادة، وفي كلا الحالتين كانوا سيضطرون إلى ترك عائلاتهم ووطنهم.
اقرأ أيضا: المسرحيّ محمد الشولي...يروي "الفصل الأخير" من حياة اللاجئ الفلسطيني
وإن طرح هذا العمل المسرحي الصراع الداخلي الذي عاشه المقاتلون خلال الحصار، إلا أنه لم يحاول محاكمة قرار المقاتلين، الذين قرروا مرغمين قبول ما توصلت إليه قيادتهم السياسية، بل بالعكس بدا القرار حتى على الجمهور المشاهد بعد 13 عاماً، صعباً.
وها هو المسرح يعيد السؤال ويؤكد عليه ويطرح الجدل الذي دار بين المقاتلين حول خياراتهم الصعبة والمؤلمة في ظل رغبتهم بالتضحية والبطولة من ناحية، وإيمانهم أن حياة المحاصرين معهم هي أمانة في أعناقهم.
وإن كان قرار الإبعاد الإسرائيلي على قساوته حلاً وقتها، فإن مسرحية "الحصار" تقدم إشكالها الأصعب عندما تستحضر المقاتلين الممثلين في مواجهة الجمهور مباشرة ليقدموا خلاصة تجرتبهم المرة في المنفي والغربة، تلك الغربة التي تدفع بمقاتل إلى أن يصبح "شخصاً يصنع المقلوبة في إيطاليا!". و"المقلوبة" هي طبق شعبي فلسطيني من الأرز واللحم والخضروات.
كوميديا سوداء
وحسناً فعل النص المسرحي حين خفف من ثقل الأحداث ودراميتها القاتلة بالكوميديا الخفيفة القائمة على مفارقات الحصار والأحلام، فتمكنت وسط أجزاء المعارك والعتمة والترقب والقلق والحيرة، من حصد ضحكات الجمهور وسط دموعه وقلقه.
وهو خيار وصفه المخرج، والممثل طوباسي بأنه كان سيفاً ذا حدين، فلم يكن الهدف هو إضحاك الجمهور بل كان الأهم هو تضامنهم مع المقاتلين وكشف الوجه الإنساني كما النضالي لهم، فلم تكن المواقف دخيلة على القصة والتطور الدرامي للمسرحية، بل جاءت من روحه. ففي عز الحصار واللحظات الحالكة كانت أحلام المقاتلين بسيطة مثل طبخة مقلوبة أو رشفة قهوة أو "مجة" سيجارة، ليضحك الجمهور من هول المفارقة.
رافق كل ذلك أداء متميز ومحترف للممثلين الستة، وهم إضافة إلى الطوباسي: فيصل أبو الهيجا، وأحمد الرخ، وميلاد قنيبه من مدينة القدس، وحسن طه من كابول في فلسطين المحتلة عام 1948، وربيع حنني من مدينة نابلس شمالي الضفة الغربية.
العمل بدوره كان فرصة مثالية للكشف عن وجود 6 ممثلين مسرحيين محترفين، ومن طراز رفيع، قدموا مسرحية طويلة متمكنه فنياً، صوتاً وإضاءة وديكوراً وتمثيلاً، لم تغرق كثيراً في الموسيقى الحماسية أو حتى في الجمل الإنشائية السياسية، بل حاولت أن تكون مقتصدة قدر الإمكان في ذلك رغم أن الموضوع في جوهره سياسي بامتياز.
القدس ممنوعة
بعد العروض الداخلية في المدن الفلسطينية، التي ستحرم منها مدينة القدس لأسباب الحصار ذاتها في ظل رفض السلطات الإسرائيلية منح الممثلين وطاقم العمل التصاريح اللازمة، فإن المسرحية على موعد للعرض في المملكة المتحدة وإيرلندا، وهو ما يجعل من "الحصار" أكبر إنتاج مسرحي فلسطيني يعرض في جولة واسعة في المملكة المتحدة.
إضافة لذلك، فإن "الحصار" عمل مسرحي فلسطيني متعوب عليه (بُذل فيه جهد كبير) ولا يخون ولا يضحك على مشاهديه، فهي مسرحية تستحق المشاهدة لنبشها موضوعاً من التاريخ الفلسطيني القريب جداً، فإضافة إلى توثيقها لهذه التجربة النضالية، فإنها تسلط ضوءها القوي على سؤال: إلى متى هذا الحصار الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية عامة؟.