تتكدّس الحقوق في أوراق على المكاتب الموزعة عشوائياً، كأنها بذلك تسعى إلى قتل الفراغات الممكنة. في مناخٍ "حقوقيّ"، تعمل جمعيات المجتمع المدني، التي باتت تتكاثر كالبشر في لبنان. تجد فراغاً هنا فتسعى إلى سدّه. الأفكار الكثيرة. الحقوق الضائعة أكثر. يساعدها على ذلك الغياب الفعلي والتام للدولة.
مع بدء الأزمة السورية، وتزايد أعداد النازحين، التقطت الجمعيات الطعم. أمّنت عملها لسنوات مقبلة. ولا بديل عنها وسط قرار حكومي على ما يبدو بـ "النأي بالنفس" عن مهامها الأساسية، وبالتالي تسليمها إلى جهة ما. طُعمٌ أسقط الإيمان الفعلي بالقضايا التي يفترض أنهم يحاربون لأجلها لصالح استمرارهم.
هذه الروح ولّدت نوعاً من انعدام الثقة بين المجتمع المدني وعدداً من وسائل الإعلام. يُضاف إلى ذلك تدقيق بعضها بالجهات الخارجية المموّلة، والحديث عن "أجندات" و"مؤامرات" وما إلى ذلك. لكن مؤخراً، ثمة ما طرأ على العلاقة بين الطرفين. وجد كل طرف ضالته عند الآخر.
رعت بعض وسائل الإعلام الحراك المدني الباهت الذي تشهده المدينة، وعمدت إلى مناصرة بعض القضايا الساخنة إذا أمكن القول. وكان أبرزها العنف ضد المرأة، بعدما شهدت الأشهر الأخيرة الماضية حالات قتل للنساء ناجمة عن العنف، إضافة إلى تهديد الحريات الإعلامية على خلفية الاستدعاءات المتكررة للصحافيين.
في الثامن من الشهر الحالي، تبنى الإعلام التظاهرة التي دعت إليها منظمة "كفى" للتصدي لظاهرة العنف ضد المرأة، والضغط باتجاه إقرار قانون حمايتها من العنف الأسري. يُضاف إلى ذلك تسليط الضوء على نشاطات المجتمع المدني التي تزداد في طرابلس (شمال لبنان) يوماً بعد يوم، في محاولة لتخفيف الاحتقان وجذب الشباب نحو نشاطات سلمية.
لكن حتى المجتمع المدني يعاني فراغاً حقيقياً، يتمثّل في انعدام القدرة على الحشد، لتنتهي النضالات على مواقع التواصل الاجتماعي. اكتفى كثيرون بـ ثورة "الهاشتاغ" وانصرفوا إلى يأسهم. لم تعد الحقوق همّ الناس الأساسي. تكيّفوا ربما مع الغلاء المعيشي، صعوبة تأمين مسكن، غياب النقل العام، النظرة الجندرية وغيرها، باستثناء الأمن الذي لا يدخل مباشرة ضمن اختصاص المجتمع المدني.
وإلى حين نجاح المجتمع المدني في الخرق، وتحقيق "دولة القانون"، سيبقى يعمل بنفسٍ تجاري يعتاش من الحقوق، ويعيش لأجلها.