ربما بقدرة أي فيلمٍ قاسٍ وموجع، أن يترافق انتهاؤه مع ارتياح المشاهد لنهاية تجربةٍ سينمائيةٍ مروّعة؛ هذا الارتياح الآني لا يلبث أن يتبدد ويبقى أثر الفيلم هاجساً يطارد متابعيه إن وفّق في شروطه السينمائية. هكذا لا بدّ أن نصنّف فيلم The Tale ضمن الأفلام العصيّة على المشاهدة، الفظائعية إلى حدٍّ ما، من دون الانتقاص من جماليتها.
عُرض الفيلم لأول مرة ضمن مهرجان Sundance هذا العام، ثم نالت حقوقه شبكة HBO التي بثّته نهاية الشهر الماضي. العمل مبنيٌّ على تجربة مخرجته وكاتبته، جينيفر فوكس، التي تعرّضت للاعتداء الجنسي في مرحلة الصبا. هذه الجملة تكفي كثيرين ليرتبط الفيلم بحملة #MeToo، ولا ضير في ذلك؛ إذ إن الفيلم يمهّد ويرسّخ قواعد متينة لأعمالٍ لاحقةٍ وخطٍّ سينمائيٍّ بات يتبلور رويداً رويداً في حقبة ما بعد هارفي واينستين؛ المنتج الهوليوودي الشهير الذي طاولته اتهامات أكثر من 80 امرأة بين تحرّش واعتداء واغتصاب.
جيّرت فوكس المعروفة بمسيرتها الوثائقية عدّة أدوات سينمائية في سبيل تقديم فيلمها الروائي الأول سنستطلعها تباعاً، ولهذا سيشقّ على ما يلي من أفلامٍ مجاراة هذه التجربة من ناحية الإلمام بالتفاصيل والرؤية الفنيّة خلال رحلة المخرجة لفضّ ملابسات ذكرياتها ومنظورها لتلك الذكريات، مع الأخذ بعين الاعتبار الذروات -غير السينمائية- التي رافقت عرضه.
القصة
إشارة: حافظت المخرجة جينيفر فوكس على اسمها الحقيقي في الفيلم، بينما قدّمت بقية الشخصيات بأسماء وهمية؛ سنشير في المقال للمخرجة بـ فوكس، والشخصية السينمائية البالغة والقاصرة بـ جينيفر وجيني على الترتيب.
تجد والدة جينيفر واجباً مدرسياً كانت قد كتبته الابنة في عمر الثالثة عشرة؛ يوضّح النصّ المعنون بـ "الحكاية" تفاصيل علاقة حميمة جمعت المراهقة بثنائيٍّ بالغ كانا يدرّبانها على ركوب الخيل والجري. الأم تدرك أن هذي الأفعال اعتداءٌ على قاصر، بينما جينفر (التي تبلغ الثامنة والأربعين الآن) عندما تسائلها الأم عن "الحكاية"، تنظر إلى الأمر برمّته باعتباره علاقة برجل بالغ أكبر سنّاً؛ أمرٌ مألوفٌ في السبعينيات حسب تعبيرها، قبل أن تعيد النظر بتجربتها الجنسية الأولى وتبدأ في رحلة استبيان الوقائع التي حصلت من منظورٍ آخر.
العرض
تزامن عرض الفيلم الأول مع إدانة لاري نصّار، طبيب المنتخب الأميركي للجمباز، إثر اتهامات تحرّشه بعضوات الفريق على مدى عقدين من الزمن، ويتناصّ هذا الحدث مع حبكة الفيلم الرئيسية؛ كلا الحالتين تشهد إساءة العاملين في الحقل الرياضيّ لحالة الثقة المنشودة مع المتدربات، فيبدو الفيلم مرحليّاً لدرجة ما.
تجدر الإشارة إلى أنّ الدورة السابقة من المهرجان (Sundance) شهدت حضورَ سيئ الذكر واينستين ومشاركته في مسير النساء، بينما غاب هذا العام واتخذ المسير اسم "مسير الاحترام"؛ ووصلت نسبة الأعمال المنجزة من قبل مخرجات إناث إلى 38% ضمن برنامج المهرجان؛ النسبة الأعلى في تاريخه.
حلّ العرض التلفزيوني على الشاشة الصغيرة بعد أيامٍ من اقتياد واينستين مكبّلاً على خلفية الاتهامات التي قُدّمت ضدّه، هذا التزامن الحاصل مع المواضيع الراهنة يضفي على الفيلم حالة من مواكبة الحراك العالمي؛ إلّا أنّ المادة الفنية صالحة لأي زمن ومن هنا تنبع أهمية الفيلم.
البُنية
يبدأ الفيلم بجملة "هذه القصة حقيقية .. حسب معرفتي". ويترك للجمهور مهمّة تبيان الحقيقة عن انطباعاتها المختلفة؛ بالنسبة لذهن البطلة أولاً ثم بالنسبة للجمهور، وتسير الأحداث في خطين زمنيين؛ الأول في الزمن الحالي، والآخر كتجسيد للحكاية التي كتبتها جيني –المراهقة. تبدأ مرحلة الفلاشباك بظهور جيني كمراهقة فارعة الطول، واثقة، تكتنز أنوثتها الصارخة، وتتبادل الابتسامات مع مدرب الجري، وتنظر لمدرّبة ركوب الخيل كمثال للمرأة.
لكن هذه المشهدية تنتفي بعد أن ترى جينيفر صورةً لنفسها في ذلك السن؛ بعد حديثها مع زميلة سابقة التي تؤكد لها أنّها كانت قصيرة القامة. تُظهر الصورة طفلةً لم يغادر وجهها الامتلاء الطفولي بعد؛ تنقلب الأمور بالنسبة لجينفير البالغة وتبدأ رحلتها لإعادة تقييم كلّ تجربتها، يسير هذا الحدث يداً بيد مع خيارات فوكس الإخراجية؛ فتستبدل الممثلة التي تجسد جيني بأخرى أصغر، وتعيد مشاهد الفلاشباك برؤية جديدة؛ فتاة أصغر؛ أكثر سذاجة، تنحو النظرات المتبادلة باتجاه الريبة؛ الافتراس، ويصبح الفيلم أكثر قتامة.
تبدأ جينيفر بلقاء جميع من عاصروها في تلك المرحلة، وبذلك تعطي فسحةً لنفسها كي تعيد التقييم للتجربة وسط ذكرياتٍ ضبابية، ويزاوج نمط الفيلم بين التحقيقيّ والوثائقيّ إبّان بحثها عن الشخصيات ثم مقابلتهم. تبتعد فوكس أكثر من ذلك؛ فالمقابلات تصل إلى أن تحادث جينيفر الشخصيات بهيئتها قبل 35 عاماً، المكاشفات أوضح، والحدث يبتعد عن الحقيقة أكثر في مناخ سينمائيٍّ مشدود.
تكسر الشخصيات الجدار الرابع في أكثر من مشهد في استعارة مسرحيّة تستعرض الحيرة في بحثٍ حثيثٍ عن حقيقة ما جرى، وصولاً لقناعة جينيفر أن ما حصل كان اغتصاباً وليس علاقةً بالتراضي كما بنت حياتها، فيحصل الانهيار لكلا الشخصيتين –البالغة والقاصرة- في ذروة الفيلم، كإجابة عن سؤال مبدأي طرحه الفيلم على لسان المدرّبة: هل يتذكّر الجسد كل شيء؟
تم تصوير جميع المشاهد الحميمية مع القاصر بالاستعانة بممثلة بديلة بالغة، لكنّ هذا لا يقلل من وقعها القاسي على المشاهدين، ولعلّ جنوح الفيلم للعرض التلفزيوني بدل العرض الجماهيري في دور السينما يُعلّل بسبب هذه المشاهد.
ينتهي الفيلم بجمع شخصيتيّ جينيفر في حمامٍ نسائي بعد أن تقابل مغتصبها وتحرجه علناً، في سؤال صريح لكافة الحاضرين: "هل كنت الوحيدة التي درّبها بيل؟"؛ سؤالٌ يستصرخ الجواب الواضح: "أنا أيضاً" الذي يغيب حينها.
اقتُبس نصّ الفيلم عن الكرّاس المدرسيّ الذي خطّته فوكس في عمر الثالثة عشر، وناغمت المخرجة بين الحالتين؛ الأولى التي تعدّ فيها جيني نفسها كبطلة القصّة، والثانية بكون جينيفر ضحيّة الاستغلال الجنسيّ والزيف الذي نخر لبّ حياتها.
الرائج كمعيارٍ للعلاقات الحميمية
ينفل ذكر العبارة التي تكرر في جنبات الفيلم، وهي أن علاقة البالغين بمن هم دون سن البلوغ كانت أمراً مقبولاً في السبعينات، وهذا يوطّئ لأهمية المرحلة والمزاج العامّ في تحديد جوانب خاصة وحميميّة عند الإنسان، وهو ذات الأمر الذي جعل الفيلم مقبولاً وقابلاً للإنجاز هذه السنة.
ترك الفيلم دمغته لدى النقاد وناشطيّ النسويّة وربى بنفسه عن الجدل حول مفاهيمٍ مثل الفارق بين الاعتداء والاغتصاب، نظراً لتوّسعه في جانب إشكالية الضحية بين مشاعرها تجاه التعدّي الحاصل والرغبة البشريّة، كما أبان الجانب الوديع الذي يظهره المعتدي وسط تحدٍّ مرتفع للشخصيّات في مقاربة الجوانب المسكوت عنها حيث تجري أحداث الفيلم عام 2008 في ظلّ غياب شخصية العام حسب مجلة التايمز لسنة 2017؛ أي "كاسرات الصمت" رائدت الوسم الشهير #MeToo.