تنزح قصيدة الشاعر السوري عبدالله الحامدي نحو الهمّ الإنسانيّ الجمعيّ في أولى ثيماتها، وتتجاوز الأطر الضيّقة بتحررها من المدارس والمذاهب، وخروجها على الأوزان والأفكار والأيديولوجيات، التي مرت بها القصيدة العربيّة. ما يؤكّد صدق انتماء شاعرنا للبيئة القادمة منها بتنوعها الثقافي والإثني والعرقي، ولتعكس تجربته الشِعرية صورة التآخي والألفة التي طالما عاشها وتعايش معها.
سمتان رئيسيّتان تميّزان المجموعة الشِعريّة الجديدة "الرهوان"، الصادرة حديثاً عن المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر في بيروت؛ اللغة أولاً، من حيثُ السلاسة وتركيبة الجملة لديه، أو من جهة العبارة المختزلة والمشحونة وبأقل قدر ممكن من المفردات والانزياحات. وثانياً، عفويّة الصور والعوالم الملتقطة بعنايةٍ فائقةٍ، تلك القادمة من أجواء الطفولة تحديداً. وكأنّه- في مجموعته هذه- يريد إعادة "الأشياء إلى عفويتها كما لو أن العالم قد خرج توّاً من بيضته الكونية الأولى" على حدّ تعبير ڤان غوخ.
في "الرهوان"، العمل الثالث في رصيد الحامدي الشِعريّ، بعد "وردة الرمل" (1995) و"نشرة غياب" (2005)؛ يتوغّل شاعرنا إلى المنطقة الأكثر حميميةً في الَنفْس، حيثُ الحنين على أشدّه، مستعيداً أدقّ التفاصيل الطفوليّة في مدينته "عاموده" التي غادرها منذ سنوات. المجموعة هنا أشبه بشريط سينمائيّ يتضمن عدداً هائلاً من الصور المختزنة في ذاكرة الشاعر. فمن قصيدة "بسكليت" إلى قصيدة "عامودة مرة أخرى" مروراً بـِ"ثلج أحمر" و"المستحيلة" و"الرهوان"؛ وفي هذه الأخيرة يقول: "أسيرُ بكتفٍ واحدةٍ/ الأخرى تركتُها في الماضي/ إذا عُدتِ/ فابكي عليها/ أما أنا فدعيني/ أتأمل غريمي: رقاصَ الساعةِ!".
عدا عن استعادة الشاعر للكثير من تلك التفاصيل المبهرة، ثمّة قصيدة أخرى يتناول فيها ما يحدث في سن الأربعين؛ نصّه هذا مشرّعٌ لتأمّل الذات والوجود في الآن معاً، إذ ثمّة حوار "داخليّ/ خارجيّ" يبدأ بطرح أسئلةٍ تتعلّق بماهيّة الوجود والموجودات، يقول: "في الأربعين/ يقفُ المرءُ فجأةً/ أمامَ المرآةِ:/ مَنْ منّا خذلَ الآخرَ؟!/ في الأربعين/ يصيرُ الضوءُ لعنة/ والليلُ جدلًا بلا لغة/ والشيبُ حقلًا/ تنضجُ ثمارُه على مهل".
من حيثُ الأسلوب، تأخذ التراكيب السلسة حيّزًا لافتًا في قصائد المجموعة، وتأخذ الكلمات من العفويّة لبوسًا وحيدًا لها، لتصبح الجُمَل- بما تحمل من أفكارٍ ورؤى- سلسلة لا نهائيّة من الصور والأخيلة، تجذب إليها القارئ وتشدّه من حواسه الخمس: "ركضتُ تحت الأمطارِ/ وأحببتُكِ/ بكيتُ مع المشرّدينَ/ وأحببتُكِ/ صرختُ في المظاهراتِ/ وأحببتُكِ/ قرأتُ الأشعارَ/ وأحببتُكِ/ كتبتُ الأشعارَ/ فقرأتُكِ!".
الشَغَف بتقنيّات قصيدة النثر يبدو جليًّا لدى الشاعر الحامدي، وتحديدًا تقنيّة التكرار، كما في قصيدة (وطني)، وذلك بترديد كلمةٍ أو جزء من جملة في مستهلّ كل مقطع، ما يُضفي نبرةً موسيقيّةً على القصيدة، ويحرّرها من الرتابة؛ لنصل إلى الدهشة المرجوّة أو ما يسمّى ببؤرة الشِعريّة والتوتّر في النهاية: "وطني الذي عرفتُه/ أكادُ لا أعرِفُه/ وطني الذي رأيتُه/ أكادُ لا أراه/ وطني الذي غادرتُه/ أكادُ لا أغادِرُه!".
من جهةٍ أخرى؛ تعتمد قصيدة الشاعر عبدالله الحامدي، في بنيتها، على تقنيّة المقطع أو ما يُسمّى بالشِعر المقطعي syllabic poetry، دون التقيّد بعدد الأبيات أو الأسطر داخل المقطع الواحد، وذلك حسب الدفقة الشعوريّة وحدها، مع البقاء ضمن حيّز الصفحة الواحدة لكل مقطع. هذه الخاصيّة منحت قصيدة الحامدي المزيد من الحيويّة والمرونة، والانتقال بسلاسةٍ وعفويّةٍ من مقطع لآخر.
كذلك تبدو عناوين القصائد علامات مضيئة تُغري القارئ، وتشدّه إلى عوالم النص، فنجد عناوين رومانسيّة مرحة، تُعنى بفلسفة البساطة: "أعرف طريقي للمرح"، "النساء اللواتي يشبهنك"، و"عاشق عابر". وأخرى تذهب أعمق من ذلك، لتأتي في صيغة التساؤل الوجوديّ: "طفل الحرب"، "أنا عدوّك"، "كبرتُ يا أمّي"، و"أحزان الحمام الدمشقيّ". فيما عنوان المجموعة الرئيس يأتي مُغايراً، إذْ يعني "الرهوان" حسب تعريف الشاعر: "الحصانُ، والمُرهِيُّ من الخيل السريعُ الذي تراه كأنّه لا يُسرِع، وإذا طُلِب لم يُدرَك!".
(كاتب سوري)