بين النقاشات والتأويلات الدائرة حول مقترح ما أطلق عليها أصحابها "صفقة القرن"، ينصرف الكثيرون إلى الأخذ بأطرافها السياسية والاقتصادية والعسكرية، والقلة القليلة حتى الفجيعة هي التي تساءلت عن نصيب الثقافة من كل هذا، أي أخذت بالطرف الأساس بين الأطراف؛ الوعي بما تمثله هذه الصفقة أو المقترح أو العرض، والغاية منها وفي أي أفق نفهمها. هي صفحة من صفحات معركة القرن الطاحنة، بمظاهرها السياسية والاقتصادية والعسكرية، هذا صحيح، ولكنها تدور على أرضية ثقافة الأطراف المتطاحنة في المقام الأول، وهذه الأرضية هي التي ستقرر في النهاية مآل المظاهر الأخرى.
بالطبع من الممكن إعادة الأفكار البالغة الوضوح الواقفة وراء ما تسمى الصفقة إلى الأرضية الثقافية التي تستند إليها، أرضية ثقافة الاستعمار الاستيطاني المتوحش التي تميزت بها غالبية النظم الغربية، ولن يعترض على هذا التوصيف سوى الغول الاستعماري نفسه بمختلف جنسياته، البرتغالية والهولندية والفرنسية والإنكليزية والأميركية.. إلخ، ولكن المهم بالنسبة لنا نحن الذين يسجننا هذا الغول في كهفه ويتغذى على لحومنا واحداً بعد الآخر منذ ما يقارب خمسة قرون على أقل تقدير، هو الأرضية الثقافية التي نقف عليها، الأرضية التي تحدد الكيفية التي نفكر بها؛ كيف نرى الغاية من هذه الصفقة التي تشبه حجراً ثقيلاً يلقى على باب الكهف ويغلقه علينا؟ أو بالتعبير الشائع، تصفية القضية الفلسطينية؟ هل نقاوم أم نستسلم؟ وكيف؟
الملحوظ منذ البداية على طرق تناول وتفسير العرب، سجناء الكهف، بكل جنسياتهم وأشكالهم وتعدّد لهجاتهم، أنها نتاج وعي متشظ وضحل بشكل عام. وأول دليل على هذه الضحالة الاعتقاد الشائع أن هذا العرض الاستعماري يستهدف فلسطين والفلسطينيين، أو كما يقال ببلادة مطلقة، إنهاء الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي، وليس الصراع العربي/ الإسرائيلي على الأقل، بينما لا يمكن لهذا الوعي أن يكون وعياً فاعلاً إلا بالاعتماد على إطار فكري أوسع؛ إطار الصراع الأوسع بين الغرب الاستعماري والشرق الصاعد مخضبا بدماء مقاومته.
وهناك من يترجمون لغة أفق الصراع مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا إلى لغة أفق مختلف، أفق الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الذي لا يفصل ولا يعزل إلا ليبيد ويمحو وجود الشعب الفلسطيني، وبذلك يرتكبون ما يمكن أن نسميه "خيانة ثقافة" التي هي أفدح من مجرد "خيانة ترجمة". المضحك بين كل هذا ما تشيعه فضائيات زواحف، لا رواد فضاء، من أن غاية هذه الصفقة، أياً كان لقبها، تعزيز موقف الرئيس الأميركي في الانتخابات الرئاسية المقبلة، أو تعزيز موقف دميته الصهيوني نتنياهو الانتخابي، وكأن استعمار فلسطين مخطط لم يولد بعد، ولم يبدأ بالاستعمار البريطاني الوحشي لفلسطين (1917)، المسمى حتى الآن "الانتداب" في أدبيات ثقافة هؤلاء المفسرين وأمثالهم.
هذه هي أبرز منتجات الوعي الضحل، أو الثقافة المهزومة بتعبير أكثر دقة، التي لا تعمي الأبصار فقط بل والبصائر أيضاً، لأنها ثقافة تضلل تحت ستار أنها تنوّر وتهدي. ولكن هناك وعياً مختلفاً بالطبع يشبه الوعي الذي اجتهد يوليسيس اليوناني وبثه بين سجناء الكهف، حين أدرك أن الخروج من كهف الغول والنجاة لا يكون إلا بمواجهته وغرس عمود ملتهب في عينه الوحيدة. وهذا هو ما حدث بالفعل في تلك الحكاية الرمزية. فهل من الممكن أن يحدث على أرض واقعنا أو واقع شعوب الشرق الآن؟
اللافت للنظر أن تأويلات أولياء ثقافة الهزيمة توجّه الأنظار، حين يتعلّق الأمر بما يحدث الآن على الأرض أو ما حدث في الماضي، بعيداً عن كل نقاط الضوء الساطعة، وخاصة تلك التي برزت في مسار طرد المستعمرين الصهاينة بالقوة من الأرض العربية.
صحيح أن وصول هذا الوعي إلى قطاعات عريضة من سجناء الكهف سيتأخر بسبب هيمنة الغول الاستعماري على منافذ الثقافة ووسائلها، والأهم على الجزء الأعظم من وسائل الإعلام الناطقة بالعربية، وستظل أنظار السجناء زمناً قد يطول مشدودة إلى ما تعرضه فضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي التي يسيطر عليها، إلا أن ثمة حركة ونشاطاً في الزاوية التي توجه ثقافة الهزيمة الأنظار والأسماع بعيداً عنها وتظن أن الليل خيّم عليها إلى الأبد، حركة تشبه حركة يوليسيس، ومن حوله حشود من رفاقه تتزايد أعدادهم، وهو يعد عموده الملتهب ليغرسه في عين الغول الوحيدة.
تقول القصة الرمزية إن سجناء الكهف، بعدما فقأوا عين الغول، هرعوا إلى الشاطئ وركبوا سفينتهم واتخذوا طريقهم إلى أوطانهم، ولكن ما سيحدث في القصة الواقعية في القرن الحادي والعشرين أن الغول المفقوء العين هو من سيفرّ هارباً، وسيعبر الأطلسي إما في تابوت أو في إحدى سفنه أو سباحة إن لم يستطع رؤية سفينته، وفي كلا الحالين، من المرجح أنه سيتخذ بالضرورة وضعاً أفقياً فوق الأمواج هذه المرّة.