تبدو روسيا اليوم مستفيدة بلا حدود من الانسحاب الأميركي من الملفات الخارجية التي لطالما كانت عنواناً لحربها الباردة مع موسكو، قبل الانهيار السوفياتي وبعده. حتى الغرب غير الأميركي يبدو غير متحمس بتاتاً في مواجهة التوسع الاستعماري الروسي الذي يتخذ عنوان "العالم الروسي الجديد"، وإن كان هذا التوسع يبدو موجهاً ضد الغرب الأوروبي بشكل رئيسي، وحلفه الأطلسي، من أوكرانيا إلى بيلاروسيا فجورجيا، كل ذلك من دون الحديث عن سورية التي باتت توصَف بأنها صارت مستعمرة روسية باستسلام أميركي غربي. استسلام اختصره وزير الخارجية الأميركية جون كيري، أخيراً بالتساؤل ساخراً: ماذا تريدون من الولايات المتحدة؟ هل تريدون أن نحارب روسيا؟ هل هذا ما تريدونه؟
ومع اقتراب فصل الربيع في أوروبا، يزداد توتر القضية الأوكرانية، تحديداً شرقها، في منطقة دونباس (لوغانسك ودونيتسك) الانفصالية الموالية للروس. وبات واضحاً أن الحرب الروسية في سورية، كبّلت إلى حدّ ما الدعوات الغربية لوقف دعم موسكو انفصاليي دونيتسك ولوغانسك، في وجه الحكومة الشرعية في كييف. وصل الأمر إلى حدّ تعارك الرئيس الأوكراني بترو بوروشينكو مع نائب رئيس الوزراء الروسي يوري تروتنيف، في اجتماعات منتدى دافوس، الشهر الماضي. ولم يدعم أعضاء حلف شمال الأطلسي أياً من الطرفين، في صورة مصغّرة عن مستقبل آتٍ.
اقرأ أيضاً: الرئيس الأوكراني يحذر من خطر الحرب "المفتوحة" مع روسيا
في الربيع يخفّ الطلب على الغاز الروسي، مع ارتفاع درجات الحرارة تدريجياً في الغرب الأوروبي الصناعي، ما يُعدّ مشكلة فعلية لروسيا، تسمح للغرب بالضغط عليها، سياسياً أم عبر عقوبات اقتصادية، لدفعها إلى تليين موقفها في الشرق الأوكراني، ووقف دعمها لانفصالييه. وعليه، من المتوقع أن يزداد الضغط على موسكو للدفع قدماً بتطبيق اتفاقية مينسك، الموقّعة في مثل هذه الأيام من العام الماضي، والتي لم تُترجم ميدانياً حتى الآن. تتألف الاتفاقية من 13 بنداً، وتقضي أساسياتها بسحب الجيش الأوكراني والانفصاليين لجميع الأسلحة الثقيلة، بهدف إنشاء منطقة عازلة، وإطلاق حوار حول شكل إجراء الانتخابات المحلية وفق الدستور الأوكراني وقانون نظام الحكم الذاتي المؤقت في مناطق محددة من دونيتسك ولوغانسك، وكذلك حول النظام المستقبلي لهذه المناطق، بالإضافة إلى سحب القوات الأجنبية من أوكرانيا، وسيطرة الحكومة الأوكرانية على كامل حدودها مع روسيا بحلول نهاية العام الماضي، لكن كل ذلك لم يتحقق بعد.
ومن المؤشرات السلبية على إمكانية تدهور الوضع الأمني، هو إعلان بوروشينكو، أن الانفصاليين انتهكوا اتفاقية مينسك 1200 مرة الشهر الماضي، فضلاً عن إعلان صحيفة "كييف بوست" الأوكرانية، أن "الانفصاليين انتهكوا اتفاقية مينسك 81 مرة، يوم الخميس". لكن الأمر يتعدّى السياق الحالي، أو "التقليدي" للأزمة الأوكرانية، ففي الأفق مؤشرات مهولة، تؤكد نوايا روسية تتخطّى مجرد "دعم قوات أوكرانية ناطقة بالروسية في دونيتسك ولوغانسك"، إلى حدّ دعم كل روسي أو حليف لروسيا، بالسلاح، في أوروبا أو العالم.
وتسعى روسيا إلى إقامة قاعدة جوية لها في بيلاروسيا، في محاولة لتوسيع أفقها العسكري، في صورة مشابهة لما تفعله في الشمال الأوروبي، من محاولات للتمدّد في القطب الشمالي. لم تتمكن روسيا من الحصول على موافقة بيلاروسيا حتى الآن، لكنها لا تضغط في هذا الاتجاه، بل إن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية هي من يضغط.
في هذا الصدد، ينقل موقع "يورومايدن برس" عن صحيفة "ناشا نيفا" البيلاروسية، أن "الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تُقيم 14 معسكراً وطنياً للشباب في البلاد". ويضيف الموقع أن "الغرض من هذه المعسكرات هو تأهيل الشباب للقتال من أجل روسيا أو العالم الروسي الجديد". وتتوزّع المعسكرات في المدن البيلاروسية الرئيسية، وفقاً للموقع. وتختص أسقفية غرودنو بالحملات الدعائية لجذب الشباب البيلاروسي للمعسكرات. ويبلغ عدد المعسكرات في غرودنو خمسة، وتكمن أهميتها، عدا عن كونها موجّهة لتدريب الشباب وتوجيههم إلى القتال في شرق أوكرانيا، في أنها على تخوم ليتوانيا وبولندا، البلدين المشمولين بأحلام روسية قديمة، ومشروعي درع صاروخي أميركي لم يبصر النور فيهما. كما أن الحدود الطولية بين ليتوانيا وبولندا، تفصل غرودنو البيلاروسية عن كالينينغراد الروسية المطلّة على بحر البلطيق شمالاً.
وباستثناء غرودنو، تنتشر المعسكرات التسعة الباقية في فيتيبسك ومينسك وبريست وتوروف وبيريزينو وموهيلفو وهوميل وبولوتسك وبوبرويسك. وتُصرف أموال طائلة على المعسكرات، ومن الواضح، وفقاً لـ"يورومايدن برس"، أن "الأموال آتية من روسيا، لضعف الاقتصاد البيلاروسي، وعجزه عن تأمين الحدّ الأدنى لجيشه، فكيف بمعسكرات غير تابعة للجيش؟". ومسألة معسكرات بيلاروسيا، تطرح سؤالاً بارزاً، حول دور "الاتحاد الأوراسي"، الذي بدأ رسمياً، مطلع العام 2015، ويضمّ روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان. ومن الواضح أن دور الاتحاد اقتصادياً، لم يكن مقنعاً حتى الآن، ما يعزّز تغطية التدريبات العسكرية الروسية بعنوانٍ اقتصادي، وتسويق الدعاية الروسية في بيلاروسيا وكازاخستان، ودول أخرى مرشحة للانضمام إلى "الاتحاد الأوراسي" كأرمينيا وقيرغيزستان.
وإذا كان الروس يدركون أن الحاجة إليهم أميركياً، تفسح المجال لهم للمزيد من التوسّع، فإن الواقع الداخلي الأوكراني لا يبدو بخير، فعدا مسألة الشرق، فإن الحكم في كييف بات مهدداً بالتفكك. لم يتمكن بوروشينكو حتى الآن، من معالجة الوضع الاقتصادي الداخلي، كما أن سوء الأداء الاقتصادي لرئيس الوزراء أرسيني ياتيسنيوك، الذي كان البعض قد رجّح تحوّله إلى "بطل أوكراني" جديد، دفع حتى، قائدة الثورة البرتقالية (2004 ـ 2005) يوليا تيموشنكو، إلى قرع أبواب التغيير الحكومي، من الولايات المتحدة في زيارة أخيرة لها.
وعدا عن أوكرانيا، فإن الوضع في جورجيا، وإن لم يتخذ بعداً إعلامياً كبيراً، إلا أنه من المرجّح أن يعود إلى دائرة الضوء، بعد استقالة "رجل الغرب" ايراكلي غاريباشفيلي، من منصبه كرئيس للحكومة الجورجية، في ظلّ الحاجة الروسية إلى تأمين المنطقة البرية بين جورجيا وتركيا، وفقاً لقواعدها ولكسر أي تحالف جورجي ـ تركي مستقبلاً. ذلك، لأن الحدود البحرية الروسية ـ التركية في البحر الأسود، والتواجد الروسي في الساحل السوري، لا يكفيان روسيا لمعالجة مخاوفها من تركيا.
ومع تحوّل سورية إلى عنوان أولي للغرب، وليبيا إلى عنوانٍ ثانٍ، لم تعد أوكرانيا، واستطراداً، دول الجوار الروسي، على جدول الأعمال الغربي. وبالتالي، ستستفيد روسيا أكثر في بسط سيطرتها، خصوصاً أن محطتين بارزتين تنتظران الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في العام الحالي؛ الأولى هي الانتخابات التشريعية الروسية في 18 سبتمبر/أيلول المقبل، والثانية تتمثل في مؤتمره الصحافي المطوّل نهاية العام، والذي تنتهي معه مهلة السنتين اللتين حددهما بوتين لمعالجة التدهور الاقتصادي في بلاده، بفعل تهاوي أسعار النفط عالمياً. من المؤكد أن أوكرانيا ستكون "وحيدة" هذا العام.
اقرأ أيضاً: شبح حرب فوق الشمال: مناورات روسية وسويدية