لم تعد الحياة إلى حمص القديمة بعد، بعد مرور شهر على خروج المقاتلين منها بموجب "الهدنة" الشهيرة. وعلى الرغم من تصوير وسائل إعلام النظام "بهجة" العائدين، فإنّ هؤلاء، حتى الموالين منهم، لم يجدوا سوى دمار وزعماء عصابات تحت أسماء حزبية ونظامية، وهو ما دفع بكثيرين ممّن عادوا، إلى مغادرتها مجدداً.
حي الحميدية هو الأقل تضرراً من غيره، فالبنية الإنشائية للأبنية ما تزال مقبولة، باستثناء أبنية متفرقة مهدمة. يشعر المار في حمص القديمة، وكأنه في ورشات تنقيب آثار، إذ تقوم البلدية بتجهيز البنية التحتية للشارع الرئيسي وشارع القوتلي.
تُقام الصلوات في الكنائس باستمرار، وقد تكفّل متطوعون بتنظيف الكنائس ورفع الأنقاض. وتقول رضاء، وهي سيدة من أهالي الحميدية، لـ"العربي الجديد"، إنهم تعاونوا مع الجيران لدفع تكاليف رفع الأنقاض من الشوارع الفرعية المؤدية إلى منازلهم. وتوضح أن المنازل غير صالحة للسكن، فمعظم التمديدات الصحية والكهرباء والماء بحاجة إلى صيانة، وخزانات المياه مخربة، وإصلاح كل ذلك يُكلّف مبالغ كبيرة. أما سعيد، فينتظر من الحكومة أن تقدّر الأضرار وأن تقدم المساعدة. بعض محال بيع مياه الشرب والدخان تفتح أبوابها، أما البلدية، فتضخّ المياه ساعتين في اليوم، لكنها لا تصل إلى كل الحي بسبب الخراب الذي طال أحياء بأكملها.
لم تحصل سرقات كثيرة في الحميدية وبقية الأحياء ذات الغالبية المسيحية، بحسب ما يؤكده السكان، إذ تتم حراستها من قبل مسلحي الحزب القومي السوري الاجتماعي، من عناصر مسيحيين قادمين من وادي النصارى، وذلك بالتنسيق بين الكنيسة والأجهزة الأمنية، بحسب معلومات "العربي الجديد"، وهؤلاء يتركزون بكثافة في الشارع الرئيسي وكافة الشوارع الفرعية، ويسألون المارة عن هوياتهم الشخصية. وقد استجدّ وجودهم في الحميدية بعد حدوث مشاكل أخذت طابعاً طائفياً، مع عناصر "الدفاع الوطني" من الأحياء المجاورة، "وهم من الطائفة العلوية"، بحسب شهادات من أهالي المنطقة، قُتل أحدهم على أثرها. لكن معظم الأهالي لم يأمنوا على ما تبقى من أثاث منازلهم، فنقلوه إلى خارج الحي.
ويؤكد شهود حماصنة أن الأسواق لا تزال تُنهب من قبل عناصر "الدفاع الوطني" في الأحياء المجاورة، ومن أفراد تنظيم جديد في حمص يُدعى "حزب الله السوري". كما أن السرقات تطال من وقت إلى آخر، مناطق جورة الشياح والخالدية المهدمتين.
حال حي الصفصافة وباب هود كحال الحميدية، إذ يحاول الأهالي حمايتهما من السرقة، لكنهم لم يشكلوا لجاناً لذلك، فعائلات كثيرة عادت إليه رغم الخطورة والصعوبات الكبيرة.
أحياء جورة الشياح والقرابيص والقصور، وكذلك جزء من الخالدية والبياضة وباب هود، دُمرت بشكل كبير، وتحتاج إلى إعادة بناء. أما الأحياء التي سبق أن اقتحمتها قوات النظام السوري، مثل كرم الزيتون وعشيرة ودير بعلبة وجزء من الخالدية والبياضة، وكلها أحياء فقيرة، فلا يزال جزء كبير من بنيتها الإنشائية سليم. لكن الأهالي لم يعودوا إليها، فقد نهبت جميعها تماماً، حتى صنابير المياه وسيراميك الجدران جرى إحراقها، في سياسة انتقامية ممنهجة.
في المقابل، فإنّ الأحياء الموالية، كالزهراء والأرمن شرقاً، وعكرمة والنزهة ووادي الدهب جنوباً، ذات الغالبية العلوية والمسيحيين والشيعة، فتعيش حالة من الفوضى لا يمكن وصفها، بسبب الانفلات الأمني الكبير لجماعات "الدفاع الوطني"، وكثيراً ما تشتبك هذه الجماعات بعضها مع بعض في مشهد يومي، مثل "جماعة الهدبة" و"أبو حيدر" في حي الأرمن، وجماعة "صقر رستم" في وادي الدهب. وقد حصلت اشتباكات بينها وبين الأمن العسكري على حاجز "دبدوب"، بالقرب من جامع بلال على طريق الشام، سقط على أثرها ما يقارب 15 قتيلاً، بحسب رواية الأهالي. وقد وصلت درجة الانفلات إلى أن أحد المجرمين، ويُدعى "أبو حشيش"، يقوم بالتحكم الكامل في امتحانات الشهادة الثانوية في حي الزهراء، وقد اجتمع مع رؤساء مراكز الامتحانات، ووضع تسعيرة لكل فرع من فروع الجامعة، تبدأ من 150 ألف ليرة سورية للطب البشري. و"أبو حشيش" هذا، الذي يتبع لعضو مجلس الشعب فراس السلوم (الهدبة)، ظهر في الحي مع بداية الثورة، ولا يُعرف اسمه ونسبه، ويُعتقد أن النظام أخرجه من السجن للقيام بجرائم قتل طائفية في شارع الستين لاتهام العلويين بها.
المدنيون في هذه الأحياء لا حول لهم ولا قوة، ويتحاشون "الشبيحة"، وسط استياء من بقائهم في أحيائهم بعد خلوّ المدينة من المسلحين. وقد شهدت تلك الأحياء تفجيرات عدة لسيارات مفخخة أخيراً، وراح ضحيتها المئات.
كما تسيطر "كتائب البعث" على الجامعة من خلال أعمال "التشبيح" داخل الحرم الجامعي. أما الأحياء التي تقطنها غالبية من السنّة ولم تتعرّض إلى التهجير والتدمير، وظلت آهلة بسكانها، فهي الأحياء الغربية من حمص، الغوطة والحمرا والملعب والميدان وكرم الشامي والإنشاءات، وكذلك الأحياء الجنوبية في الشماس، إضافة إلى مخيم الفلسطينيين، فهي تعيش حياة طبيعية، ولا ينتشر فيها عناصر من "الدفاع الوطني"، ويقتصر الوجود النظامي فيها على حواجز للجيش أو للأمن العسكري. وتقول سدرا، المهجرة من حمص القديمة، وتسكن حالياً في الحمرا، إن تلك الحواجز تقوم بمضايقة السكان كلما تعرضت الأحياء الموالية للنظام إلى حوادث أمنية.
وأما حي الوعر، الذي يضم الغالبية العظمى من مهجري حمص القديمة، فلا يزال محاصراً، وتتمركز فيه عناصر "الجيش الحر"، وهم من أهالي المدينة، ولا تزال المفاوضات جارية مع النظام لعقد هدنة جديدة.