تلقى الكتاتيب القرآنية في موريتانيا انتعاشاً كبيراً في شهر رمضان بسبب حرص الموريتانيّين على استثمار بركة هذا الشهر وروحانيّته لتحفيظ أبنائهم أجزاءً من القرآن الكريم. ويكاد الأمر يكون عادة عند العائلات الموريتانيّة التي تصرّ على إرسال أبنائها إلى الكتاتيب في شهر رمضان لحفظ القرآن، وحضور الدروس الدينيّة التي تقام في المساجد والمدارس الدينيّة، وبيوت العلماء والفقهاء.
وفي رمضان، يحتفل الصبية والشباب بحفظ القرآن الكريم كاملاً. فالأهل بمعظمهم يرفضون الإعلان عن حفظ أبنائهم القرآن كاملاً خلال العام، ويفضّلون تأجيل الاحتفال بالمناسبة إلى شهر رمضان. حينها، يعلن شيخ الكُتَّاب حفظ الطالب القرآن الكريم كاملاً بحضور أهله وزملائه، ويُمنح شهادة رسميّة أو "إجازة الختمة" بعد اختبارٍ قاسٍ في جميع أجزاء القرآن الكريم.
العمل الأفضل
ومع تزامن رمضان والعطلة الصيفيّة، تشهد الكتاتيب ومدارس القرآن التي تعرف في موريتانيا باسم "المحظرة" إقبالاً استثنائياً من قبل الموريتانيّين الذين يرسلون أطفالهم إلى مدرّسين للقرآن يثقون في علمهم وورعهم.
وتقول فاطمة بنت أمبيريك وهي موظفة وأم لطفلَين إن "أفضل ما قد يفعله الطالب في الإجازة هو حفظ القرآن، لا سيّما في هذا الشهر المبارك الذي يتفتح فيه عقل وشهيّة الطالب للعلم والتعلم". تضيف "إرسال الطالب لحفظ القرآن عادة موريتانيّة أصيلة... قبل دخول المدرسة وفي أثناء التعلم وفي العطلة الدراسيّة. وثمّة من يؤجّل إدخال طفله التعليم النظامي حتى يحفظ أجزاءً من القرآن".
أما خالد ولد حمدي، وهو مدرّس وأب لثلاثة أطفال، فيرى أن دور "المحاظر" لا يقتصر على حفظ القرآن الكريم "بل يتعداه إلى تأديب الطفل وتعليمه وبث روح التعاون والتواضع في نفسيته. وهذا أفضل من البقاء في المنزل وقضاء معظم الوقت أمام شاشتَي التلفزيون والكمبيوتر".
يضيف خالد "ثمّة من يجد صعوبة خصوصاً الموظفين، في مراقبة أبنائهم في رمضان. فيفضلون إرسالهم إلى الكُتَاب ليحفظوا القرآن. كذلك فإن التجمعات العائليّة التي تميّز شهر رمضان وجوّ التنافس بين أبناء العائلات في حفظ القرآن وتجويده في السهرات الدينيّة، تشجّع الجميع على الإقبال على الكتاتيب في رمضان".
تقاليد أصيلة
ما زالت منهجيّة التعليم القائمة على الحفظ والنسخ غيباً على الألواح الخشبيّة، متّبعة في الكثير من الكتاتيب، ويحاول بعض القائمين على هذه الدور استثمار الإقبال عليها في شهر رمضان تطوير منهجيّة التعليم، لتتلاءم مع متطلبات العصر من تقنيات حديثة.
وفي المقابل، ثمّة من يعارض هذا التوجّه ويفضّل الإبقاء على الشكل التقليدي للمحظرة خشية تمييعها. ويقول أحمد ولد السنهوري وهو شيخ محظرة إن "هذه المدارس قائمة على البركة وتقاليد أصيلة. وعظمة دورها تدفعنا إلى الإبقاء عليها كما هي. وهذا أكثر ما يشجّع العائلات على إرسال أطفالها إلى المحاظر. فطلاب المحظرة ليسوا في حاجة إلى التقنيات الحديثة، بل هم في حاجة إلى المراقبة والمتابعة".
ويشدّد على أن طريقة اللّوح الخشبي ما زالت مفيدة، مضيفاً أن "طلاب المدارس الدينيّة في امتحان دائم لقوّة الذاكرة وسرعة البديهة والتنافس في التجويد. واللوح الخشبي يساعدهم على التنافس والحفظ السريع خوفاً من عقاب المدرّس والحرمان من الراحة".
ويشير إلى أن أغلب المحاظر في موريتانيا ما زالت تحافظ على التقاليد نفسها المتّبعة منذ مئات السنين، خصوصاً في التعامل بين الشيخ المعلّم والطلبة وعدم فرض الشيخ مقابلاً مادياً لقاء عمله. يضيف "شيوخ المحاظر في موريتانيا يقبلون تعليم أي طالب مهما كان مستواه ووسطه ومن دون مقابل..، فشيخ الكتّاب يعتمد في معيشته على الزكوات وما يتبرّع به الناس".
وعن طريقة العمل في المحاظر في شهر رمضان، يقول الشيخ أحمد "يتجمّع التلاميذ من صغار ومراهقين وشباب بعد صلاة الفجر ويتلون سور القرآن بطريقة جماعيّة. ثم يتمّ تقسيمهم بحسب تحصيلهم وليس بحسب سنّهم، إلى مجموعات تتنافس على حفظ القرآن حتى التاسعة صباحاً. حينها تمنحهم استراحة. وبعد صلاة الظهر نخصّص حصّة لتجويد القرآن، ونعود بعدها إلى الحفظ حتى ما بعد صلاة العصر بساعتَين".