"المصالحة الفلسطينية".. إلى الوراء دُرْ
هجوم الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، على حركة حماس، من القاهرة، وتهديده بالتحلل من "المصالحة"، يستدعي إلى الأذهان، من جديد، تجربة مريرة منذ ثماني سنوات لما يسمى الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني، أو قل، أكثر دقة، بين حركتي فتح وحماس. فمحطات كثيرة، بهدف تحقيق المصالحة بين الطرفين، مرت بعواصم ومدن عربية مختلفة، مثل القاهرة ومكة المكرمة والدوحة، غير أنها كلها اصطدمت بعمق هوة الانقسام والشرخ بين الطرفين. والرهان على نجاح "المصالحة" الأخيرة التي وقعها الطرفان في مخيم الشاطئ في قطاع غزة، في إبريل/نيسان الماضي، لم يكن على أرضية اقتناع الطرفين بأهمية المصالحة وطنياً، بقدر ما كان على أرضية الضرورة، لكليهما. فعباس الذي فشل مشروعه التفاوضي مع إسرائيل، حينها، والمنزعج من عودة خصمه، محمد دحلان، العضو المفصول من حركة فتح، إلى المشهد، برعاية من عواصم عربية، لم يكن أمامه من خيار شعبي سوى التوجه نحو حماس "للمصالحة"، في حين أن الحركة الإسلامية التي أصبحت حبيسة قطاع غزة والحصار المشدد عليه، بعد الانقلاب في مصر في يوليو/تموز 2013، لم يكن أمامها من مخرج لتخفيف وحشية الحصار على القطاع إلا بالتوجه نحو عباس وحركة فتح.
وفي تفاصيل الهجومين اللاذعين على حماس، فإن عباس شنهما على مدى يومين في القاهرة، في السادس والسابع من الشهر الجاري. ففي لقاء جمعه مع إعلاميين مصريين، هدد بالتخلي عن اتفاق "المصالحة"، واتهم حماس بتشكيل "حكومة ظل" من 27 وكيل وزارة، في حين لا تستطيع "حكومة الوفاق" أن تفعل شيئاً على الأرض، كما قال. وتحدث عباس بنفسٍ فصائلي، زاعماً أن عدد من قتلوا من حركة فتح في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بلغ 861 شخصاً، مقابل 50 من حركة حماس. وأصر الرجل على أنه لن يقبل إلا بـ"سلطة واحدة، ونظام واحد، وقانون واحد، وسلاح واحد في المناطق الفلسطينية".
وفي مجلس وزراء الخارجية العربية، بدأ عباس كلمته مجدداً بمهاجمة حركة حماس و"انقلابها"، ما اضطر رئيس الجلسة، وزير الخارجية الموريتاني، إلى الإعلان عن الجلسة مغلقة، وأن يطلب من الإعلاميين والمراقبين مغادرة القاعة، ولكن، ليس قبل مشهد سوريالي، بعد أن وضع أحد موظفي الجامعة ورقة أمام عباس، وهو يلقي كلمته، فُهِمَ من تمتماتهما ضرورة أن يصمت إلى حين إغلاق الجلسة.
للأسف، ليس هجوما عباس الجديدَين، غير المبررَين على حركة حماس، منعزلَين ضمن سياق طويل، منذ توقيع اتفاقية "الشاطئ". فعباس وأركان السلطة الوطنية الفلسطينية والناطقون الرسميون باسم الفصيل الذي يرأسه (فتح)، لم يتوقفوا يوماً عن تصريحاتٍ تضر بـ"المصالحة" المفترضة. كما أن "حكومة الوفاق الوطني" لا زالت تصر على عدم دفع رواتب الموظفين المدنيين والعسكريين الذين بقوا في عملهم خلال سنوات 2006-2014، وعددهم حوالى 45 ألفاً، وفيهم أطباء ومدرسون، في حين أنها بقيت تدفع رواتب أكثر من 80 ألفاً آخرين بقوا في منازلهم بطلب من السلطة، منذ سيطرة حركة حماس على قطاع غزة في يونيو/حزيران 2006. وتزعم هذه الحكومة أن ثمة "فيتو" دولياً وإقليمياً على ذلك.
دع عنك تلميحات عباس، وبعض من حوله، المتكررة، سواء في أثناء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أم بعده، والتي تحمّل حركة حماس مسؤولية العدوان، وما ترتب عليه من فظاعات وجرائم إنسانية وعمرانية، ارتكبتها إسرائيل. بل، وصل الأمر إلى حد أن تربط السلطة الفلسطينية مسألة إعادة إعمار غزة وإدخال المساعدات لها بسيطرتها التامة على قطاع غزة وخروج حماس من المشهد نهائياً، متماهية بذلك مع شروط إسرائيلية أميركية، يتساوق معها المحور العربي المعادي لروحية التغيير العربية.
هنا، ينبغي التأكيد على معطى مهم، فمن غير الدقيق أبداً الحديث عن الانقسام، وكأنه بدأ في يونيو/حزيران 2006، وذلك عندما سيطرت حماس على قطاع غزة، وطردت القوات الموالية لعباس وحركة فتح. وغير صحيح أن الصدام تمَّ على خلفية تنازع الصلاحيات بين الحكومة والمجلس التشريعي من ناحية، واللذين كانت تسيطر عليهما حركة حماس، بفعل أغلبيتها البرلمانية، وبين مؤسسة الرئاسة من جهة أخرى، والتي هي تحت سيطرة حركة فتح. الانقسام في الساحة الفلسطينية عمره عقود، ويمتد إلى ما قبل ولادة حركة حماس أواخر ثمانينيات القرن الماضي، ويعود، في جانب كبير منه، إلى اختلاف البرامج والمشاريع الوطنية. فانخراط "القيادة الفلسطينية"، والتي تعني عملياً، قيادة حركة فتح، في عملية تسويةٍ مع إسرائيل من دون ضوابط أو خطوط حمراء، بل وقل من دون مشروع وطني وتوافق وطني، هو السبب الأبرز لهذا الشرخ في الواقع الفلسطيني. واللافت أن عباس، وأركان سلطته وفصيله، يعيبون على حماس أنها احتكرت "قرار الحرب"، وأن مثل هكذا قرار ينبغي أن يكون قرار "القيادة الفلسطينية" وضمن توافق وطني، في حين أنهم أنفسهم، قلبوا ظهر المجنِّ لأي توافق وطني في المفاوضات مع إسرائيل التي أثبتت أنها عبثية منذ أواخر عام 1990.
الأعجب أن محمود عباس الذي يرفض تطوير منظمة التحرير، على الرغم من الاتفاق على ذلك في القاهرة عام 2005، بشكل يسمح بدخول حركتي حماس والجهاد الإسلامي إليها، هو نفسه من يرفض، الآن، تفعيل "الإطار القيادي المؤقت"، والذي اتفق عليه غير مرة، بما في ذلك في اتفاق مخيم الشاطئ، ويفترض فيه أن يعالج القرارات المصيرية، سياسياً ووطنياً. ثمَّ بعد ذلك تراه يتحدث عن "القيادة الفلسطينية"، مع أن هذه القيادة، حسب الاتفاقات الموقعة بمباركته، تنص على الشراكة في القرار وطنياً.
يخطئ بعضهم عندما يزعمون تبنيهم الحياد في هذا السياق. فالحياد والموضوعية مفهومان مختلفان. وكل من يحب فلسطين ويساوره القلق على مشروعها الوطني، ينبغي أن يكون موضوعياً لا محايداً. فالحياد بين طرف معتد وآخر معتدى عليه يعني اصطفافاً، وإن كان سلبياً، مع المعتدي. وكذلك بشأن الحياد بين المصيب والمخطئ. في حين أن الموضوعية تقتضي الوقوف مع المظلوم أو المصيب، بغض النظر عمن يمثلهما، اتفقنا أم اختلفنا معهما، أحببناهما أم كرهناهما.
رهن الرئيس عباس حياته ومشروعه لمسار وحيد، اسمه "المفاوضات" مع إسرائيل، هو المسار الذي وصل إلى طريق مسدود، بعد أكثر من 20 سنة باعترافه. من حق عباس أن يقتنع بما شاء، ولكن، ليس من حقه أن يكون ذلك على حساب مشروعنا الوطني وقضيتنا الفلسطينية العادلة. فخفة المفاوض الفلسطيني تسببت بكوارث بنيوية للمشروع الوطني الفلسطيني برمته، وهذا ملفٌ لا ينبغي أن يكون حكراً على "قيادة" غير منتخبة وغير مسؤولة شعبياً. كما أن ارتهان السلطة الفلسطينية لمحور عربي، معاد لتطلعات الشعوب العربية العادلة بالحرية والكرامة، أمر لا ينبغي التغاضي عنه، والسكوت عليه. فهذا المحور ذاته من أشد خصوم القضية الفلسطينية وثورتها.
تأمل كثيرون بتعزز مسار "المصالحة الوطنية"، في أثناء العدوان الإسرائيلي، أخيراً، على قطاع غزة، وصمود المقاومة الفلسطينية المشرف، وكان الوفد الفلسطيني الموحد، في المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل في القاهرة، أحد بشائر هذا الأمل الموءود، غير أن الحقيقة أن الوفد شهد خلافات ضاعفت من حجم انقسام الفصيلين الأكبر، حماس وفتح. وقد عبرّ ناطقو "فتح"، غير مرة عن استيائهم من "تشدد" حماس في المفاوضات، في حين كانوا يريدون قبول مبادرة نظام الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، كما هي، والتي تساوي بين الضحية والجلاد.
كلمة أخيرة، وإن بدت تقديراً سوداوياً، إن أي تغيير حقيقي مرتجى في الساحة الفلسطينية لن يتم إلا بتغيير حقيقي في الإقليم العربي، وبدون ذلك، ستبقى قضية فلسطين مدخل تقديم أوراق "الاعتماد" لأنظمة عربية كثيرة لدى الإسرائيليين والأميركيين. ومحمود عباس نفسه امتداد لهذا النظام الرسمي العربي الغالب. انتهت رئاسته، حسب القانون الأساسي الفلسطيني، مطلع عام 2009، غير أن مجلس جامعة الدول العربية مدد له في نوفمبر/تشرين ثاني2008، بالتوازي مع قرار المجلس المركزي الفلسطيني الفاقد، هو نفسه، الأهلية القانونية والشرعية، القاضي بالتمديد له أيضاً!