على بعد أمتار من ضريح الرئيس الراحل ياسر عرفات، كان العشرات من الإسرائيليين المتطرفين، يتجولون في المكان بزيهم الأسود "والكيباه" يلتقطون الصور بابتسامات عريضة. هو المكان نفسه الذي هدمته قبل بضع سنوات دبابات جيشهم، وهي تحاصر أبو عمار قبل أن تغتاله بالسم، كما يتهمها الفلسطينيون.
جاء هؤلاء إلى مقر الرئيس محمود عباس، في رام الله، المعروف بـ"المقاطعة"، ليسمعوا وجهة نظر القيادة الفلسطينية حول السلام. تبدو "المقاطعة" مكاناً مألوفاً لمن خدم منهم في جيش الاحتلال الإسرائيلي، وشاهدها من على ظهر دبابته "الميركافاه". أما الآخرون الذين يُصنّفون كـ"جنود احتياط"، فجالوا بنظراتهم الفضولية في المكان، وسرعان ما كانت تصطدم بعيون حرس الرئاسة، فيتبادل الطرفان نظرة جدية وثوانٍ من الصمت الحاد.
على مدار نصف ساعة، استمع نحو 300 شاب إسرائيلي، يمثلون كل الأحزاب السياسية الاسرائيلية، إلى خطاب عباس. زعيم "فتح" ومنظمة التحرير الفلسطينية بدأ كلامه بتحية "ضيوفه ــ الأعداء" بالعربية: "السلام عليكم"، قبل أن ينتقل للعبرية: "شالوم".
وقال في بداية خطابه: "أنا سعيد اليوم بهذا اللقاء، وأشكر كل الشكر من عمل من أجله. كان مقرراً أن يعقد منذ فترة طويلة ولكن مع الأسف هناك ظروف صعبة مرت أجّلته، لدرجة أن البعض اتهموني بأنني لا أريد مثل هذا اللقاء".
وأوضح بعد ذلك موقف القيادة الفلسطينية من مفاوضات التسوية ومطالبها، في خطاب لم يخلُ من روح الدعابة عندما قال للمجتمعين: "حكومتكم بدها تاخد المطر اللي عندكم والمطر اللي عنا، وعارضين علينا يحَلوا مياه البحر، يعني احنا ما بنشرب متلكم؟.. وما بنتحمم مثلكم؟". لتضج القاعة بالضحك.
لكن الخطاب لم يذكر كلمة "احتلال" سوى مرة واحدة، وعلى لسان الأمم المتحدة، حين قال الرئيس عباس إن "القرار الذي حصلنا عليه في الأمم المتحدة يقول إن الأراضي التي احتُلَّت عام 1967، هي أراضٍ فلسطينية، وإن القدس الشرقية هي عاصمة لدولة فلسطين، وهذا قرار أممي يجب علينا أن نلتزم به".
العلاقات الدافئة كانت واضحة بين منظمي اللقاء التطبيعي، من الفلسطينيين والإسرائيليين على حدّ سواء؛ فلغة الجسد، من المصافحة الطويلة، وتربيت الكتف، والابتسامات الكبيرة، كانت تختصر اللقاء الذي تمّ الترتيب له بعناية، وتمّ تأجيله أكثر من مرة إلى حين سماح الظروف به. "وها هي قد سمحت أخيراً"، على حد تعبير رئيس لجنة متابعة الشؤون الإسرائيلية في منظمة التحرير، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، محمد المدني.
المفاجأة الكبيرة أنّ اللقاء التطبيعي لم يضمّ فحسب قيادات فتحاوية وأعضاء في اللجنة المركزية لحركة "فتح"، مثل المدني، ومحمد اشتية، وعزام الأحمد، والملياردير الفلسطيني منيب المصري، الذي سبق أن استضاف رجل الأعمال الإٍسرائيلي رامي ليفي في منزله قبل نحو عامين بمدينة نابلس. فقد ضمّ أيضاً، وفي سابقة من نوعها، أحد قادة اليسار الفلسطيني، وهو نائب الأمين العام للجبهة الديموقراطية، قيس عبد الكريم، الذي نفى لـ"الجديد" مشاركته في اللقاء التطبيعي، رغم وجود صور تثبت عكس ذلك، تم توزيعها على صفحات "الفيسبوك" بشكل واسع.
وضم اللقاء التطبيعي أيضاً أعضاء وكوادر من حركة الشبيبة - الذراع الطلابية لحركة فتح - في الجامعات الفلسطينية، الأمر الذي قوبل بالغضب من عناصر شبابية. غضب صامت تجاوزه البعض بتعليقات حانقة على "الفيسبوك"، ليس أكثر.
كثر اعتصموا ضد الاجتماع التطبيعي. مسؤول "الجبهة الديموقراطية" في جامعة القدس المفتوحة، فراس بدر، كان واحداً منهم، إذ اعتصم أمام ضريح عرفات، حاملاً لافتة كُتب عليها: "أبو مازن مع مين بالضبط؟". وقد عبّر الشاب عن غضبه عندما علم بمشاركة عبد الكريم في اللقاء، وقال لـ"الجديد": "أنا مصدوم، أعتقد أن هذا الخبر كاذب، والصور مفبركة، لا يمكن أن يطلب منا الحزب أن نشارك في الاعتصام ضد اللقاء التطبيعي، ويحضره نائب الأمين العام في آن، لا أعتقد ذلك... مستحيل".
بدر، الذي بدا في قمة غضبه، أوضح أن قوات الأمن الفلسطينية منعته من الاعتصام، "وقاموا بمصادرة بطاقتي الشخصية، بينما يجلس نائب الأمين العام للحزب مع الاحتلال الإسرائيلي داخل المقاطعة...".
ربما لم يسمع نائب الأمين العام للجبهة الديموقراطية صراخ بدر، ومعه العديد من الفلسطينيين الذين اعتصموا أمام البوابة الجنوبية للمقاطعة، والذين قمعتهم أجهزة الأمن الفلسطينية، مثلما قمعت الصحافيين ومنعتهم من التصوير، وهم يهتفون: "التطبيع ليش ليش... واحنا تحت رصاص الجيش"، أو "يا أبو عمار قوم وشوف... المحتلين صاروا ضيوف".
المعتصمون الرافضون للتطبيع، على قلّتهم، عاندوا الأمن الفلسطيني، ولم يرضخوا لأوامره بالانصراف من أمام البوابة الجنوبية للمقاطعة القريبة من ضريح الرئيس الراحل عرفات، وأصروا على البقاء هناك لأكثر من ثلاث ساعات، فحاصرتهم عناصر الأمن ومنعتهم من التوجه نحو البوابة الشرقية للمقاطعة، حيث دخلت الحافلات الإسرائيلية التي تحمل 300 إسرائيلي.
وفي سؤال لإحدى المعتصمات، ريتا أبو غوش، حول قلة المعتصمين ضد اللقاء التطبيعي، رأت أن "الناس ملّت، وعندها يقين أنهم لو تظاهروا أو لم يتظاهروا فلن يتغير شيء، الرئيس عباس يفعل ما يريده بغض النظر عما يريده الشعب".
ريتا، التي تحمل قريتها المهجرة اسم عائلتها، ربما سيزيد غضبها عندما تقرأ خطاب الرئيس عباس أمام الوفد الإسرائيلي، وتحديداً ما قاله حول اللاجئين، والذي جاء فيه: "هناك دعاية تقول إن أبو مازن يريد أن يعيد إلى إسرائيل 5 ملايين لاجئ لتدمير دولة إسرائيل، هذا الكلام لم يحصل إطلاقاً، كل الذي قلناه هو تعالوا لنضع ملف اللاجئين على الطاولة لأنها قضية حساسة يجب حلها لنضع حداً للصراع، ولكي يكون اللاجئون راضين عن اتفاق السلام. لكن لن نسعى أو نعمل على أن نغرق إسرائيل بالملايين لنغير تركيبتها السكانية، هذا كلام هراء وما يقال في الصحافة الإسرائيلية هو غير صحيح".
أما أحد الكوادر الفتحاوية، محمد الحاج، فعبّر عن مشاعره بيأس: "نتظاهر ضد من؟ الرئيس عباس هو قائد فتح، ورئيس السلطة الفلسطينية، ورئيس منظمة التحرير، ضد من بالضبط نتظاهر؟".
في المقابل، يرى الناشط في حركة المقاطعة، زيد الشعيبي، أن قلة عدد المحتجين ضد اللقاء التطبيعي تعود "ليأس الشعب من إحداث أي تغيير".
ويشير إلى وجود حسابات أخرى، "مثلاً حركة الشبيبة في الجامعات الفلسطينية لن تحتج أمام المقاطعة ضد ما يفعله الرئيس عباس، والقائمون على المقاومة الشعبية أيضاً لن يفعلوا ذلك بسبب تضارب المصالح، أما ما تبقى من الأحزاب السياسية فهي موافقة ضمناً على ما يجري". وكان الشعيبي قد نال نصيبه من الضرب والدفع بالأيدي وتمزيق اللافتات التي يحملها، من قبل الأمن الفلسطيني.
وفي حين انتشرت عناصر الأمن الفلسطيني على مداخل مدينة رام الله وفي شوارعها، معلنةً حالة الطوارئ، علم "الجديد" أن الرئاسة أمرت بإبقاء عدد من الحراس وعناصر الأمن الذين يعملون في المقاطعة، بعيداً عن مكان اللقاء التطبيعي، وألزمتهم بأوامر حازمة بالبقاء في مكاتبهم أو مقراتهم البعيدة نسبياً عن ديوان الرئاسة، حيث جرى اللقاء.
وكشفت هذه المصادر لـ"الجديد" أن "بعض عناصر الأمن لهم أقارب شهداء من الدرجة الأولى أو أسرى يمضون أحكاماً عالية، ولا تريد الرئاسة أي نوع من المفاجآت".
ويرى العضو المؤسس للحملة الفلسطينية الخاصة بمقاطعة إسرائيل، عمر البرغوثي، إن "الحديث عن اختراق المجتمع الإسرائيلي بالتطبيع، أدى إلى اختراق المجتمع الفلسطيني وتقويض القيم الوطنية والأخلاقية، هذه الاسطوانة باتت مشروخة ومملة ومرفوضة بالكامل جماهيرياً".
الناشط السياسي حازم أبو هلالة لم يكن أقل غضباً من زملائه، إذ يلفت إلى أن "العالم كله يتجه لمقاطعة إسرائيل، والرئيس عباس يستقبل المئات من الإسرائيليين في مقر المقاطعة على بعد أمتار من ضريح الشهيد عرفات.
في النهاية، اختصرت إحدى المتظاهرات تعليقها قائلة: "لا يوجد ما أقوله سوى أن المقاطعة اليوم بتتكلم عبري".
كيف لا، وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، محمد المدني نفسه يقول لـ"الجديد"، إن "هذه اللقاءات تُحدث تغييراً في قناعات الإسرائيليين، الذين ينقل لهم إعلامهم معلومات تحريضية ومغلوطة حول موقف الفلسطينيين من المفاوضات". وشدد على أنه "سيكون هناك الكثير من اللقاءات مع الإسرائيليين من كل الأطياف في المرحلة المقبلة، فإٍسرائيل مجتمع ديموقراطي ونعوّل على أن الوفود الإسرائيلية المشاركة تستطيع إحداث تغيير في الانتخابات الإسرائيلية لصالح قوى السلام، إذا ما فشلت المفاوضات"، على حد تعبيره.
ويترأس المدني لجنة متابعة الشؤون الإٍسرائيلية في منظمة التحرير الفلسطينية، التي استحدثها الرئيس محمود عباس في ديسمبر/كانون الأول 2012، حيث نفّذت العام الماضي 100 لقاء مع إسرائيليين من كافة الأطياف، بمن فيهم ضباط في جيش الاحتلال.