يواصل مجلس شورى حركة "النهضة" التونسية الإعداد لمؤتمره العاشر الذي يُفترض أن ينعقد نهاية هذا الصيف (بين أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول)، وسينظر وفق قيادات "النهضة"، التي تحدثت لـ"العربي الجديد"، في عدة مسائل حيوية في مسيرة الحركة، ومن بينها الرؤيا السياسية، بما تشمله من تقييم تجربة الحكم وأداء الحركة خلالها وبعدها، والنظرية السياسية، أي موقفها من الدولة والثورة، والبرنامج الاقتصادي ورؤية الحركة للحكم بشكل عام. غير أن السؤال الأهم في نظر المتابعين يتمحور حول ما تسميه الحركة "تصريف المشروع" أي العلاقة بين الجانب الدعوي والسياسي والمجتمع، وكيفية التحوّل من حركة شاملة إلى حزب سياسي وطني، وتأسيس هذا التحوّل استناداً إلى أرضية فكرية وتنظيرية واضحة.
وكان المؤتمر التاسع للحركة قد أرجأ النظر في هذه النقطة إلى المؤتمر العاشر هذا الصيف، لتزامن المؤتمر السابق مع الإعداد للانتخابات، ويبدو أن الحركة ماضية في حسم هذا الملف نهائياً، ومواجهته بشجاعة. وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة التي توليها الساحة السياسية التونسية لهذا الموضوع، فإن عدداً من قيادات "النهضة" قلّلت من هذه الأهمية، معتبرة أنها تجاوزتها فعلياً، ولكنها تطرح أسئلة عديدة على الحركة ومن بينها إعادة هيكلتها إذا حُسم الفصل من المؤتمرين.
ويقول القيادي في "النهضة" ناجي الجمل، إن المؤتمر العاشر سيراجع هذه الشمولية في نشاط الحركة، وسينعكس قرار الفصل بين الاتجاهين على هيكلية الحزب، فقد تكتفي الحركة بالجانب السياسي وتترك الدعوي لغيرها، مؤكداً أن الحركة مقبلة على صياغة رؤية جديدة تتضمن مبادئ عامة وقيماً أساسية سيرتكز عليها عملها وستستلهم منها سياساتها وبرنامجها في المستقبل سواء المجتمعي أو الاقتصادي.
وبالعودة إلى جوهر السؤال المطروح على المؤتمر، أي الفصل بين الدّعوي والسياسي، يقول المستشار السياسي لرئيس "النهضة" راشد الغنوشي، لطفي زيتون لـ"العربي الجديد"، إنه يعترض أصلاً على لفظ "الدٓعٓوي" لأن الدعوة لا تتم في مجتمع مسلم متجانس، ثم إن "النهضة" لا تحتكر الإسلام ولا تتحدث باسمه، لأن تونس حسمت الموضوع اجتماعياً منذ عقود، وجاء الدستور الجديد لينهي جدل الهوية، ويترك للدولة وحدها مهمة حماية الدين ومؤسساته، ويكفل حرية المعتقد للمواطنين.
ويعتبر "هذا الموضوع من مخلّفات الماضي، لأن هناك اليوم في تونس جمعيات ومؤسسات ووزارة تُعنى بالشأن الديني وترعاه، وهناك حرية للتونسيين في التفكير في الشأن الديني، ولم يعد هناك موجب اليوم ليهتم حزب سياسي بهذا الأمر، لأنه سينُتج خلطاً لدى البعض ويدعم مخاوف البعض الآخر من إقحام الديني في السياسي"، لافتاً إلى "أن الدعوة لا مبرر لها، خصوصاً بعد أن اقتربنا من شعبنا واقتنعنا بأن الموضوع لا يحتاج إلى دعوة، كما أن الإسلام أصلاً ليس ديناً تبشيرياً، ولكنه تربوي وأخلاقي وبإمكان الجمعيات والدولة أن تتولاه، وهناك اليوم نقاش داخل الحركة للنظر في كيفية بلورة وترجمة هذه الأسئلة وهذه الرؤى الجديدة"، مضيفاً: الدين الإسلامي بُني على قاعدة التخيير في الاعتقاد "وقل الحقّ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر".
ويشير زيتون إلى أن "الأحزاب السياسية تُترجم رؤية إنسانية لتنظيم المجتمع وتطويره وليست ترجمة للرسالات السماوية المقدّسة"، معتبراً أن "مفهوم الدولة الإسلامية في حدّ ذاته مفهوم تجاوزه التاريخ". ويرى أن "النهضة التي كانت جزءاً من التيار الإسلامي السياسي، كانت في البداية حركة نضال ضد الدولة، ودفاع عن الحريات، وكانت منشغلة بالدفاع عن الهوية، ولم يكن بإمكانها البحث في طرح بدائل باعتبار إقصائها من المشاركة في الحياة السياسية"، ولكنه يوضح أن "الثورة غيّرت هذه المهام وحوّلت الدولة من خصم لمجتمعها إلى قريبة منه، وهذا التغيير في بنية الدولة فرض تغييراً على بنى الأحزاب المعارضة بدورها، بجميع مرجعياتها الفكرية، ولم يحدث هذا إلى الآن بسبب تسارع الأحداث وفرض أجندات سياسية كالانتخابات، وتحولّت الأيديولوجيا إلى قلب الصراع السياسي في حين كان ينبغي أن تخرج من دائرته".
اقرأ أيضاً: صيف سياسي ساخن للأحزاب التونسية
ويعلن "أننا اليوم أمام استئناف عملية تطوير الحركة، خصوصاً على مستوى بُعد الهوية، لا البعد الديني، لأن الدين مشترك بين الجميع والدستور حسمه، ولكي يبقى الحزب صامداً قريباً من الناس عليه أن ينتج بدائل مقنعة للتونسيين، خصوصاً على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، ويشرع في المساهمة في التفكير العام في الأسئلة الكبرى كإصلاح التعليم أو منظومة الجباية أو التنمية، وهي أسئلة لم نكن نطرحها من قبل حين كان العمل مقتصراً على النضال من أجل التنظيم والحريات وغيرها"، معتبراً أنه "لا بد من إنتاج "نهضة جديدة لتونس الجديدة"، ولا أعتقد أن المؤتمر المقبل سيفصل في كل هذه القضايا، وإنما هي عملية تفكير متواصل".
غير أن حركة "النهضة" تخوض هذا الامتحان الهام على مستوى داخلي بقدر ما تطرحه نيابة عن بعض الحركات الإسلامية العربية الأخرى، التي لم تجد الفضاء الفكري الحر لطرحه، أو لعلها لم تجد الشجاعة السياسية التاريخية لطرح هذا السؤال.
ويرى مستشار الغنوشي في هذا الإطار، أن "بعض الحركات الإسلامية التي كانت تعتقد أن النهضة تنازلت وتراجعت ولم تصمد في صراعاتها السياسية الأخيرة، بدأت تغيّر أفكارها، لأن عملية الإصلاح تستوجب أولاً المحافظة على استقرار الاوطان، فلا يمكن العمل في بيت منهار"، مؤكداً أنّ "النهضة لا ترتبط تنظيمياً بحركة الإخوان المسلمين على الرّغم من الاستناد المشترك إلى الحضارة الإسلامية وإلى القيم الإسلامية الإنسانية التي أسّست لتحرير الإنسان، والتقاء حركة النهضة مع الإخوان وغيرهم من الأحزاب والتجارب السياسية العربية حول مجموعة من القيم العامّة التي يتضمّنها الدين، ولكن هذا لا يعني ارتباطاً تنظيمياً أو هيكلياً أو في المضمون بهذه الأحزاب والتجارب".
وكان زيتون قد لفت في نص كتبه منذ مدة إلى أنّ الهوية السياسية لحركة "النهضة" السياسية لم تتشكّل بعد بالكامل، ولكنها حزب ديمقراطي يضمّ في صلبه أطيافاً فكرية وسياسية منها من يميل إلى المحافظة ومنها من يميل إلى والتقدّمية، ومنها من ينحاز إلى مدارس الدفاع الاجتماعي والتخطيط المركزي للاقتصاد، ومنها من ينحاز إلى الاقتصاد الحرّ، لكن العنصر الجامع بين جميع هؤلاء هو الإطار الديمقراطي للتفكير والنقاش والتفاعل والآليات لإدارة الديمقراطية الحزبية وصنع القرار سعياً إلى اختيار أفضل التصوّرات وأنجعها لخدمة الشأن العام والمصلحة الوطنية.
غير أن هذا الانفتاح الواضح في طرح زيتون كواحد من أبرز قياديّي "النهضة" ومنظّريها، خصوصاً على المستوى السياسي، لا يعني إجماعاً في صفوف الحركة، فالفصل بين الدعوي والسياسي قد يكون هيكلياً فقط بالنسبة إلى البعض، على الرغم من ترجيح آخرين للتخلي نهائياً عن "الدعوي" لصالح الدولة والمجتمع المدني، وسيكون على المؤتمر المقبل أن يفصل في هذه المسألة بوضوح، فهناك من يرى من داخل الحركة في النقاشات الدائرة منذ مؤتمرها التاسع، أن هذه الدعوة على الرغم من وجاهتها وفائدتها تتعارض مع أحد ثوابت فكر حركة "النهضة" وهو فهمها للإسلام باعتباره ديناً شاملاً ونظام حياة يشمل كل نواحي الحياة الفردية والجماعية، ولا يمكن فصلها.
ولذلك فإن الدعوة إلى الفصل بين الدعوي والسياسي في رأي بعض قياديي الحركة، قائمة على إشكال نظري وعملي، لأن الإسلام لا يقر الفصل بين الدين والدولة.
ويرى بعضهم، في كثير من النصوص المنشورة، أن الاهتمام بالجانب السياسي عند أبناء "النهضة" على اختلافهم، رسّخ ابتعاد الحركة عن "إسلاميتها" وأفقدها خصوصيتها بين باقي الأحزاب، وشجّع قطاعاً واسعاً من المتعاطفين معها على التوجه نحو التيارات السلفية التي مثلت عند البعض بديلاً عن تنازلات "النهضة".
ويدعون على العكس من ذلك، إلى تفعيل مختلف الجوانب الدعوية والتربوية والفكرية والثقافية، ولكن داخل حركة "النهضة"، وليس خارجها، ما يعيد إليها في رأيهم، ثراءها الذي كاد يغيب في ظل التجاذبات السياسية وهيمنة الجانب السياسي على غيره من الجوانب، ولكنهم يدعون إلى إيجاد تنظيم هيكلي مرِن بين الجانبين لا يقطع بينهما ويتيح هامشاً من الحرية لكليهما. ويستعرض هؤلاء سياقات وتجارب عربية أخرى، مثل التجربة الأردنية والمصرية، والمغربية بالخصوص.
وكان القيادي البارز في الحركة الحبيب اللوز (الذي سبق له ترؤس مجلس الشورى)، قد أعلن منذ المؤتمر التاسع أنه سينسحب من الحزب للتفرّغ للجانب الدعوي، وتصادم مع حركته في أكثر من مناسبة حول بعض القضايا التي يتداخل فيها الديني بالدنيوي، والتي تُختبر فيها علاقة "النهضة" بالشريعة كمصدر للفعل السياسي، وهو بالتأكيد ليس الوحيد الذي ينتهج هذا الرأي.
ولن يكون الموضوع المطروح على المؤتمر المقبل باليسر الذي يتصوره البعض، فالقضايا المطروحة على جدول أعماله كثيرة، وليس أقلها تقييم الحركة والتوقف عند محطات بارزة من تاريخها.
اقرأ أيضاً: "النهضة" تستعيد تماسكها: الغنوشي باقٍ والجبالي عائد