"امرأة السهوب، الشرطي والبيضة" (Ondog)، عنوانٌ اختير لفيلم الصيني كونان وانغ في فرنسا، ويُعتبر نقطة ضعفه الوحيدة. في اللغة المنغولية، يشير العنوان إلى بيضة مُستحاثة للديناصور. ربما كان يمكن عنوَنة الفيلم بدقّة أكبر. لكنّ "سلالة الديناصورات" أو "الديناصورات الناجية" لن يكون لهما جاذبية "امرأة السهوب".
والمرأة شخصية مركزية، وقوية البنية، ترعى بمفردها أغنامها في السهوب المنغولية اللامتناهية. في الدقائق الأولى، يتبيّن أنّ لها لقباً غريباً: الديناصور. أهمية اللقب تتبدّى قبيل النهاية، حين تلتقي مُحبّها التائه والسكّير والطيّب، الذي يُهديها مُستحاثة لبيضة ديناصور، ويبدأ شرحاً عفوياً، تزيح فيه قوّة الأسطورة الشعبية كلّ علمٍ مُمكن. فالأراضي المنغولية أحد المهاد الأساسية لهذا الحيوان المنقرض.
المنقرض؟ ليس تماماً. بحسب الراعية والمُحبّ الطيب، لم تختفِ الديناصورات، بل تحوّلت إلى بشرٍ يسكنون هذه السهوب، استجابةً لغريزة البقاء والنجاة. وإذا تمكّن هؤلاء البشر من البقاء، فإنّ سلالتهم ستتحوّل إلى ديناصورات تحيي أجدادها مرّة أخرى. وباستمرار دورة الحياة تلك، تبقى السلالة البشرية حيّة، وتنجو بنفسها.
في الحوار الغريب بينهما، وفي إعادة تركيبهما الشائكة لأسطورة قديمة، يُطرح سؤال البقاء. ليس فقط بقاء الشخصيات في عالمٍ، حيث الموت برداً أو نهشاً من الذئاب يُشكّل حدثاً غير استثنائي، بل بقاء السلالة البشرية، وبقاء هؤلاء البشر، حيث الوجود على هذه الأرض العارية محفوف بالمخاطر، وحيث تعود لهم مسؤولية الحفاظ على استمرارية الحياة. هناك أيضاً ما يتجاوز ذلك: البقاء نفسه، لكلّ شيء ولكلّ الكون. هذا الحوار الرئيسي متأتٍ من لحظةٍ انتهى الاثنان فيها للتوّ من مساعدة بقرة على وضع عجل صغير، كان مُهدّداً بالموت برداً في ليلةٍ قارسة. الحوار نفسه يأتي أيضاً في لحظة قرار اتّخذته الراعية، الحامل من رجلٍ عابرٍ هو الشرطي الشاب، الذي عرفت كيف تُغريه: عدم التخلّص من حملها، وتأسيس أسرة مع هذا المُحبّ المسكين والمخلص لها، والمُستعدّ دائماً لتقديم أي مساعدة تطلبها.
يُبنى الفيلم على خيار العيش والبقاء والتحلّي بالشجاعة، أو بالأحرى عدم التخلّي عنها في ظروفٍ قاسية للغاية، وعزلة قصوى، فأقرب قرية تقع على مسافة 100 كلم. إنّها إرادة استمرار حياةٍ ليست سهلة، حيث يجب إطلاق طلقات من بندقية قديمة لإبعاد الذئاب، والاعتناء بالقطيع عند كلّ فجر وغروب، والحذر من متطفّلين يحومون حول نساء وحيدات، ربما يتحوّلون فجأة إلى مجانين، أو مجرمين يرتكبون جريمة قتل، ستكون بداية السيناريو، إذْ يرتكبها سكّير بحقّ امرأة في السهوب البعيدة. حياة شاقّة، لكنّها غير تعيسة حيث الدفء قدر المستطاع في "يورت" (خيمة المنغول)، وحيث الوجوه تُضيء بابتسامة عند التفكير بالطفل الذي سيأتي ويكبر ويسعى إلى الاستمرار، هو أيضاً.
أسلوب كونان وانغ، في فيلمه السابع هذا ـ المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ69 (7 ـ 17 فبراير/ شباط 2019) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي"، والمعروض في الصالات الفرنسية بدءاً من 19 أغسطس/ آب 2020 ـ يمكن أنْ يبدو بطيئاً جداً. لكنّ البطء ليس خياراً جمالياً لا ضرورة له، وليس نتيجة عجز عن انتقال أو قفز بين محاور السرد لقلتها. فعندما يتطلّب السرد ذلك، يتمّ الانتقال من موضوعٍ إلى آخر بشكلٍ مُبهر. مثلاً: لا يظهر شيءٌ من علاقة الحبّ بين الشرطي الشاب وزميلته المتدرّبة الشابة، بل إدراكٌ بوجود علاقة سريعة أو مغامِرة بينهما، يكشفه وداعٌ صامت. ولا يظهر شيءٌ من حفلة الشرطة المُنظّمة لوداع المتدرّبة نفسها، العائدة إلى العاصمة، إذْ يُكتفى بطلقات مضيئة في الهواء، وبألعابٍ نارية تشعّ في ليلة قارسة البرودة.
تجلّى البطء في مَشاهد عدّة، اهتمّ وانغ فيها بتفاصيل دقيقة، تاركاً الزمن يعبّر عن مروره، كأنْ تُتابع الكاميرا عبور الجمل الذي تركبه الراعية في تنقّلاتها، أو عبور الدراجة النارية للمحبّ، ونَقْل تفاصيل مفصّلة، كذبح خروف، وتحضير حوض ماء دافئ، وإشعال سيجارة، ومُتابعة جهود يبذلها الشرطي الشاب المبتدئ لتدفئة نفسه في هذه الليلة العجيبة، فهو مكلّف بحراسة جثة شابة في السهوب، بانتظار وصول المحقّقين، وحين تأتي الراعية الشابّة لمساعدته، فيستجيب لإغرائها، ويمارس الجنس معها.
يُتقن وانغ اتّخاذ أسلوب متباعد، حين يبقى على مسافة من شخصياته في معظم المَشاهد. يظهر هذا خاصة في مشهد تبادل الحبّ، المصوّر ببراعة مرّتين، مع الراعية نفسها (دولامياف انختايفان، وهي راعية منغولية): أولى مع الشرطيّ الشاب، وثانية مع المُحبّ السكّير، حيث يظهر ضوءٌ ضبابي، من لمبة تهتزّ ببطء. استعان وانغ بمدير التصوير الفرنسي أيمريك بيلارسكي، لرفضه العمل مع مُصوّرين صينيين، لأنّهم "لا يضعون أنفسهم في خدمة الفيلم، بل في خدمة ذواتهم" (من حوار ترويجي للفيلم).
البطء والتفاصيل الدقيقة الموثّقة أمرٌ ضروري، يصف حركات وتعاملاً مع أشياء غير عادية، ليست الجريمة من بينها. أمرٌ يسمح بجعل المُشاهد يشعر بمدى ثقل العالم المادي، ومقاومة الإنسان الراغب في البقاء والعيش، الذي يؤمن بقيمة الحياة. هذا تأمّل بدورة الحياة والموت. قوّة صبورة لا تقهر، من دون عاطفة، لكن ليس من دون إنسانية، تنبع من شخصياتٍ لا تُقهر.
يعيد Ondog مُشاهديه إلى إنسانية لا تئنّ من هذا الوجود ولا تلعنه، حتّى عندما تزن الحياة وزن ديناصور.