إذا كان للحدث أهميّته الخاصة في حياة البشر، فإن غيابه قد يساوي، إن لم يتفوّق، على أهميّة وقوعه، خصوصاً إذا كان هذا الحدث يحتل حيّزاً في مجمل الأحداث التي تصوغ حياة البشرية.
الموت نموذج لهذا الحدث، وهو ما انتبه إليه الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو واعتمده في روايته "انقطاعات الموت" الصادرة ترجمتها حديثاً عن "دار مسكلياني" في تونس بطبعة جديدة منقّحة، من إنجاز صالح علماني، وتقديم نصر سامي.
يفتتح صاحب "العمى" عمله من دون مقدّمات: "في اليوم التالي لم يمت أحد"؛ إذ توقّف الموت في الأول من يناير لإحدى السنوات عن عمله الدؤوب الذي كان بدأه مع نشأة البشرية، ليتكدّس آلاف المحتضرين.
في ظل هذا المتغيّر، يرسم ساراماغو عالماً جديداً، إذ يُشكّل غياب الموت معضلة لدور كل من الكنيسة والسلطة والفلاسفة ورأس المال. تفقد الكنيسة دورها كمنادية بالبعث، فبدون الموت لن يكون هناك بعث. والفلاسفة الذين انقسموا بين متشائمين ومتفائلين اصطدموا بمبرّر وجودهم "الفلسفة تحتاج إلى الموت بقدر حاجتها إلى الأديان، وإذا كنا نتفلسف فلأننا نعرف أننا سنموت" أو كما قال أحدهم: "إن التفلسف هو تعلّم الموت".
ينجو من "مصيبة غياب الموت" أصحاب شركات دفن الموتى والعصابات التي أوجدت طرقاً أخرى لدفن الناس، كعادتها عبر التاريخ في التأقلم وإنشاء مبرّر للكسب المشروع وغير المشروع، بينما اقتصر دور السلطة على الفرجة.
جعلت الأشهر القليلة التي توقّف الموت خلالها الأجساد تبلى، ليتذمّر الجميع من الحياة. طفا على السطح مفهوم الخلود الذي صار مبتذلاً بعدما نزع عنه ساراماغو بروح ساخرة الصورة المثاليّة التي كرّستها البشرية في الأذهان، وحاولت عبر التاريخ السعي إليه، ليرتفع النداء أخيراً "يجب أن نموت لتستمر الحياة".
ساخراً بين حين وآخر، يوقف الروائي البرتغالي سير الحكاية ليوجّه خطابه للمتلقي مباشرة، مصحّحاً ما يبدو أنه خطأ في بناء الأحداث، كأن يتوقف ليبرّر لماذا افترض هذا الحدث دون غيره، ويُكمل بعدها عرض آثار توقّف الموت من جهة أضلاع المثلث الذي عدّل عليه من "الدين - الجنس - السياسة" إلى "الدين - رأس المال - السياسة".
تنعطف الأحداث حين يباشر الموت عمله من جديد مع تعديل طفيف على وظيفته، إذ صار يقوم بتنبيه الناس قبل أسبوع من دنوّ آجالهم بعد أن طالبوا هم أنفسهم برجوعه. يصل ساراماغو بكل هؤلاء ليقتنعوا أن الخلود بمفهومه الفيزيقيّ لم يعد المشتهى عند من اختبروا توقّف الموت عن العمل.