رحلة البحث، التي يقوم بها المخرج الإيراني سياماك اعتمادي (1972) في "باري"، شديدة الخصوصية والتفرّد: بحثٌ عن الذات والروح والهوية، وقبل هذا، عن الحرية. ومع تمدّد الرحلة واكتشاف المجهول، تتوغّل الآثار والتفاعلات الموازية، أعمق وأعمق، في النفس البشرية.
في "باري"، وجهٌ غير معهود تماماً في السينما الإيرانية: هناك تلامس جسدي، ممنوع كلّياً بسبب الرقابة، وطبيعة المجتمع الإيراني نفسه؛ وأيضاً كشف شعر الرأس، وقبلة عابرة بين امرأتين، وتطرّق إلى حياة العاهرات. هناك مشهد بين البطلة وزوجها يوحي بممارستهما الجنس. للمَشاهد ضروراتها المُبرّرة في السياق الدرامي، من دون مبالغة. وإذْ تُعتبر عادية جداً في أفلامٍ وسينمات كثيرة، إلا أنّها غير معهودة في السينما الإيرانية. يُعزى هذا، في جانب منه، إلى دراسة سياماك اعتمادي وإقامته في اليونان، وانفتاحه على لغة وثقافة وإمكانيات مغايرة؛ وفي جانب آخر، إلى الحرية الواسعة المتوفّرة له في ما يتعلق بالتفكير والعمل والتنفيذ وإدارة الممثلين، من دون قيود أو رقابة أو معوقات.
سيناريو "باري" (اعتمادي نفسه) يُفسَّر كإسقاطٍ رمزي على مفهوم الدولة أو الوطن والحرية المفقودة. رحلة البطلة بحثاً عن ابنها، واكتشافها روحها وجسدها، تثير أسئلة عدّة: ما الدافع إلى البقاء في بلدٍ غريب، وسط أناس مجهولين، ولغة لا تعرفها، ومخاطر وصعاب وعقبات لا تتوقف؟ أهو الحبّ الخالص، أو الخوف من فقدان عزيز إلى الأبد، أو إدراك أنّ المستمرّ، بطريقةٍ ما، لا يُمكنه أنْ يستمر هكذا حتّى النهاية؟ أهو اليأس أم الأمل؟ يصعب، خاصة مع نهاية الفيلم، معرفة إنْ كانت البطلة مُقادة أو مدفوعة على هذا النحو الحماسي الأهوج، بسبب عاطفة الأمومة فقط، أو لغرضٍ ذاتيّ محض، مُرتبط بهويتها وكيانها المفقودَين منذ عقود.
باري (أدّت الدور، بحرفية شديدة، الإيرانية الألمانية مليكا فوروتان) امرأة جميلة وهادئة ومُتسامحة، تتحدّث الإنكليزية قليلاً. تذهب إلى أثينا مع زوجها العجوز الطيّب فاروخ (شهباز نوشير)، في سفرٍ هو الأول لهما خارج إيران. في المطار، بعد انتظار وترقّب، ينطلقان، بإيعاز وإلحاح من باري، إلى حيث يسكن ابنهما الوحيد باباك، الحاصل على منحة منذ عامين للدراسة في إحدى الجامعات التقنية في أثينا. منذ 3 أشهر، انقطعت أخباره، ولم يعد إلى إيران أبداً، وهاتفه مغلق.
يتّضح أنّ باباك غادر شقته الصغيرة، الغارقة في الظلام والفوضى، منذ فترة طويلة. لم يُسدّد الإيجار ولم يدفع الفواتير، التي يُسدّدانها، ويستأذنان صاحب الشقّة لتمضية الليلة فيها. بين أغراضه، تعثر باري على جواز سفره شبه المُحترق، وكتابات وإشارات غامضة وغير مفهومة، وقصائد لجلال الدين الرومي. صباحاً، يتوجّهان إلى الجامعة، ويُفاجآن بأنّه مُسجّل فيها منذ عامين، لكنّه لم يتابع الدروس بانتظام، ولم يُقدِّم الامتحانات، كما أنّه فَقَد المنحة. لا أصدقاء ولا زملاء له، وما من أحد تعرّف على صورته.
لم يكن اللجوء إلى الشرطة والقنصلية مفيداً. يخبرهما السفير أنّ شباباً إيرانيين كثيرين يضيعون بسبب الحرية الزائدة، ومناخ التحرّر والانفلات. البعض، حتّى الذكور منهم، يمارسون الدعارة. لكنّ الأهم والأخطر التحوّل إلى المسيحية، للحصول على اللجوء والحماية، ثم الجنسية الأوروبية. بعد شهرين من البحث المضني في اتجاهات وأماكن مختلفة، لا يبلغان شيئاً، بل يتعبان ويشعران باليأس، وينفد المال معهما. يرى فاروخ ضرورة العودة، نظراً إلى عدم جدوى المكوث والبحث، لا سيما أنّه كلّف شخصاً بالبحث عنه، بالإضافة إلى بحث السفارة والشرطة. يتعارض هذا طبعاً مع رغبة باري. بعد مُشادة عنيفة بينهما، ينكشف تلميحٌ غامض أنّه تزوّجها لإنقاذ شرفها. لاحقاً، يصرخ فاروخ: "أحبّه كأنّه ابني الذي أنجبته من صلبي".
رغم الوفاة المفاجئة لفاروخ، ورغبة الأهل في عودتها مع الجثمان لإقامة الجنازة ودفنه في بلده، تُعاند باري بشدّة، رافضة العودة من دون ابنها. تنطلق وحدها وسط الشوارع والأحياء، مُتسلّحة بصورة باباك، وبشُحنة هائلة من الأمل والصبر والعزيمة. بدءاً من تلك اللحظات، يتحوّل الفيلم، إذْ تبدأ الإثارة والتشويق، وتبرز جماليات فنية، ويُوغل السيناريو عميقاً في النفسيّ. مع هذا، هناك حدس بأنّ باري لن تعثر على باباك، وأنّ الرحلة كلّها مُتعلّقة بها، وببحثها عن ذاتها.
بعودتها إلى الجامعة، تلاحظ باري رسومات وكتابات مُماثلة لتلك التي عثرت عليها في شقة باباك، يخطّها طلاّب أناركيّون فوضويون. صدفة، تلتقي زميلة له تُدعى زوي (صوفيا كوكالي)، تتعرّف على صورته، فتخبرها أنّه بخير، لكنّها لم تره منذ مدة، إذْ انصرف عنهم من دون سبب واضح. تؤكّد لها أنّه شخص رائع، وتدعوها إلى عدم القلق. تتعهّد زوي بمساعدتها، بعد معرفتها بأنّها والدته الجميلة التي حدثّها عنها. في بحثهما، تزداد الإثارة والمغامرة: تنخرط باري في تظاهرات الطلبة والفوضويين اليونانيين المعارضين للحكومة، وللسياسات المالية التقشّفية في بلدهم. تضيع وسط القنابل المسيّلة للدموع، وملاحقات الشرطة، في مَشاهد أجاد سياماك اعتمادي صنعها بحرفية (مشهد احتراق شادور باري مثلاً).
بعد ذلك، تعثر باري على خيط يقودها إلى مكان يُحتمل أنْ يكون ابنها فيه. تمشي في أحياء وشوارع وتلال مهجورة سكنها باباك. تلتقي أشخاصاً يعرفونه، يؤكّدون لها رؤيتهم إياه مؤخّرا، وأنّه بخير. تدريجياً، تُدرك باري عبر الكلام المُقتضب أنّها لن تعثر عليه أبداً، إذْ يتّضح لها أنّ هروبه كان بسببها، ليبتعد عنها، وعن سلطتها غير الظاهرة، وأيضاً لإسقاط شخصيتها عليه، ولعدم فهمها إياه. عندها، تُدرك باري أنّها هي أيضاً لم تعش الحياة التي أرادتها لنفسها ولابنها، فتستقلّ سفينة، متذرّعة بالبحث عنه، لكنّها في الواقع تبحث عن حريتها، وتهرب من ماضٍ بات الآن وراءها.
سيناريو "باري" (اعتمادي نفسه) يُفسَّر كإسقاطٍ رمزي على مفهوم الدولة أو الوطن والحرية المفقودة. رحلة البطلة بحثاً عن ابنها، واكتشافها روحها وجسدها، تثير أسئلة عدّة: ما الدافع إلى البقاء في بلدٍ غريب، وسط أناس مجهولين، ولغة لا تعرفها، ومخاطر وصعاب وعقبات لا تتوقف؟ أهو الحبّ الخالص، أو الخوف من فقدان عزيز إلى الأبد، أو إدراك أنّ المستمرّ، بطريقةٍ ما، لا يُمكنه أنْ يستمر هكذا حتّى النهاية؟ أهو اليأس أم الأمل؟ يصعب، خاصة مع نهاية الفيلم، معرفة إنْ كانت البطلة مُقادة أو مدفوعة على هذا النحو الحماسي الأهوج، بسبب عاطفة الأمومة فقط، أو لغرضٍ ذاتيّ محض، مُرتبط بهويتها وكيانها المفقودَين منذ عقود.
باري (أدّت الدور، بحرفية شديدة، الإيرانية الألمانية مليكا فوروتان) امرأة جميلة وهادئة ومُتسامحة، تتحدّث الإنكليزية قليلاً. تذهب إلى أثينا مع زوجها العجوز الطيّب فاروخ (شهباز نوشير)، في سفرٍ هو الأول لهما خارج إيران. في المطار، بعد انتظار وترقّب، ينطلقان، بإيعاز وإلحاح من باري، إلى حيث يسكن ابنهما الوحيد باباك، الحاصل على منحة منذ عامين للدراسة في إحدى الجامعات التقنية في أثينا. منذ 3 أشهر، انقطعت أخباره، ولم يعد إلى إيران أبداً، وهاتفه مغلق.
يتّضح أنّ باباك غادر شقته الصغيرة، الغارقة في الظلام والفوضى، منذ فترة طويلة. لم يُسدّد الإيجار ولم يدفع الفواتير، التي يُسدّدانها، ويستأذنان صاحب الشقّة لتمضية الليلة فيها. بين أغراضه، تعثر باري على جواز سفره شبه المُحترق، وكتابات وإشارات غامضة وغير مفهومة، وقصائد لجلال الدين الرومي. صباحاً، يتوجّهان إلى الجامعة، ويُفاجآن بأنّه مُسجّل فيها منذ عامين، لكنّه لم يتابع الدروس بانتظام، ولم يُقدِّم الامتحانات، كما أنّه فَقَد المنحة. لا أصدقاء ولا زملاء له، وما من أحد تعرّف على صورته.
لم يكن اللجوء إلى الشرطة والقنصلية مفيداً. يخبرهما السفير أنّ شباباً إيرانيين كثيرين يضيعون بسبب الحرية الزائدة، ومناخ التحرّر والانفلات. البعض، حتّى الذكور منهم، يمارسون الدعارة. لكنّ الأهم والأخطر التحوّل إلى المسيحية، للحصول على اللجوء والحماية، ثم الجنسية الأوروبية. بعد شهرين من البحث المضني في اتجاهات وأماكن مختلفة، لا يبلغان شيئاً، بل يتعبان ويشعران باليأس، وينفد المال معهما. يرى فاروخ ضرورة العودة، نظراً إلى عدم جدوى المكوث والبحث، لا سيما أنّه كلّف شخصاً بالبحث عنه، بالإضافة إلى بحث السفارة والشرطة. يتعارض هذا طبعاً مع رغبة باري. بعد مُشادة عنيفة بينهما، ينكشف تلميحٌ غامض أنّه تزوّجها لإنقاذ شرفها. لاحقاً، يصرخ فاروخ: "أحبّه كأنّه ابني الذي أنجبته من صلبي".
رغم الوفاة المفاجئة لفاروخ، ورغبة الأهل في عودتها مع الجثمان لإقامة الجنازة ودفنه في بلده، تُعاند باري بشدّة، رافضة العودة من دون ابنها. تنطلق وحدها وسط الشوارع والأحياء، مُتسلّحة بصورة باباك، وبشُحنة هائلة من الأمل والصبر والعزيمة. بدءاً من تلك اللحظات، يتحوّل الفيلم، إذْ تبدأ الإثارة والتشويق، وتبرز جماليات فنية، ويُوغل السيناريو عميقاً في النفسيّ. مع هذا، هناك حدس بأنّ باري لن تعثر على باباك، وأنّ الرحلة كلّها مُتعلّقة بها، وببحثها عن ذاتها.
بعودتها إلى الجامعة، تلاحظ باري رسومات وكتابات مُماثلة لتلك التي عثرت عليها في شقة باباك، يخطّها طلاّب أناركيّون فوضويون. صدفة، تلتقي زميلة له تُدعى زوي (صوفيا كوكالي)، تتعرّف على صورته، فتخبرها أنّه بخير، لكنّها لم تره منذ مدة، إذْ انصرف عنهم من دون سبب واضح. تؤكّد لها أنّه شخص رائع، وتدعوها إلى عدم القلق. تتعهّد زوي بمساعدتها، بعد معرفتها بأنّها والدته الجميلة التي حدثّها عنها. في بحثهما، تزداد الإثارة والمغامرة: تنخرط باري في تظاهرات الطلبة والفوضويين اليونانيين المعارضين للحكومة، وللسياسات المالية التقشّفية في بلدهم. تضيع وسط القنابل المسيّلة للدموع، وملاحقات الشرطة، في مَشاهد أجاد سياماك اعتمادي صنعها بحرفية (مشهد احتراق شادور باري مثلاً).
بعد ذلك، تعثر باري على خيط يقودها إلى مكان يُحتمل أنْ يكون ابنها فيه. تمشي في أحياء وشوارع وتلال مهجورة سكنها باباك. تلتقي أشخاصاً يعرفونه، يؤكّدون لها رؤيتهم إياه مؤخّرا، وأنّه بخير. تدريجياً، تُدرك باري عبر الكلام المُقتضب أنّها لن تعثر عليه أبداً، إذْ يتّضح لها أنّ هروبه كان بسببها، ليبتعد عنها، وعن سلطتها غير الظاهرة، وأيضاً لإسقاط شخصيتها عليه، ولعدم فهمها إياه. عندها، تُدرك باري أنّها هي أيضاً لم تعش الحياة التي أرادتها لنفسها ولابنها، فتستقلّ سفينة، متذرّعة بالبحث عنه، لكنّها في الواقع تبحث عن حريتها، وتهرب من ماضٍ بات الآن وراءها.