28 يناير 2024
"بحبك يَ حمار"
كم تمنيت لو كانت التضحية بالذات عند المواطن العربي، من أجل الحرية والتمرد على شروط الحظيرة، مرادفة لنظيرتها في حالة العشق القديم، حصراً، لكانت النهضة العربية قد تحققت منذ قرون، غير أن ذلك لم يتحقق، فعلياً، لأن العرب، يرفضون، حتى الآن، تقديم اعتذار تاريخي لقيس بن الملوح عن وصمه بـ"المجنون".
لست أهذي، بل أقدم إجابة شافية عن سؤالٍ يؤرّق الضمير العربي منذ مدة، وأجدني مضطراً للاستخفاف بكل المشاريع الفكرية التي أنفق عليها باحثون عرب جادون زهرة حياتهم من دون طائل، لا لكونهم لم يعيروا التفاتاً للظلم الذي أحاق بـ"عاقل ليلى" فقط، بل لأنه نموذج كان ينبغي تمثله، لمن أراد أن يذهب إلى آخر شوط الانسجام الذاتي بين الحلم والإرادة، من دون أن يخضع لشروط المجتمع ومثبطاته من أعراف وتقاليد، أحالت المجموع العربي إلى قطيعٍ لا يُحسن، في ذروة إبداعه الفكري، غير التفريق بين البطيخة الحمراء والقرعاء، على أبعد تقدير.
كنت أطمح طوال عمري، بعد "عاقل ليلى"، والشنفرى، وعروة بن الورد، إلى بزوغ شخصيات عربية مماثلة، قادرة على ابتكار تمردّها الخاص على حياة المستنقعات والأسن الفكري والاجتماعي، شخصيات تتمسك بالحب في ذروة الحرب، كي لا تموت مرتين.
في المقابل، وبعد أن أنشب التردي الفكري والحضاري أنيابه في أدمغتهم، بدأ العرب يلجأون إلى التنفيس عن إرادتهم المعطوبة، باختراع نوعٍ من العشق السياسي، الذي يحمل قدراً كبيراً من الأشغال الشاقة، التي يدرجونها في أغانيهم.
فبعيد مفتتح القرن الماضي بقليل، حين كان الطغيان الاستبدادي متفرداً في الرقاب العربية، وقبل وصول نظريات المعارضة إلى الشارع، سادت أغان عاطفية تعبر، في باطنها، عن ولع غريب بالحكام، فلجأ العرب إلى أغنية ليلى مراد ونجيب الريحاني، للتعبير عن تبجيلها الجلاد، وأعني بها: "عشانك إنتي أنكوي بالنار ولقّح جتّتي.. وادخل جهنم وانشوي بالنار واقول يااالهوتي"، على الرغم من أن كاتب هذا "الفصل من الجحيم"، لم "يلقّح جثته"، من أجل الحبيب، بل كان على استعداد أن يفعل ذلك للسلطان فقط.
في مرحلة لاحقة، يوم بدأ الطغاة يرتدون أقنعة الديمقراطية الزائفة والبرلمانات الصورية، آثر هذا المواطن الغلبان أن يختار من موسوعة أغاني العشق العربي أغنية شادية حصراً: "مخاصمني بقاله مدة".. وفي هذه الحال، عليه أن يحذو حذوها في تلك الليلة التي هزّها الشوق إلى حبيبها، فلم تبادر إلى مصالحته، بل آثرت، عوضاً عن ذلك، أن تفاقم من تمزّقها الداخلي، بالاكتفاء برفع سماعة الهاتف وإدارة قرصه، وطلب رقم عشيقها، من دون أن تنبس ببنت شفة، بل كان يكفيها من ذلك كله سماع كلمة "ألو" منه، ثم حين أعجبتها اللعبة، راحت ترفع السماعة وتدير أسطوانة لعبد الحليم حافظ، موظفة "التّناصّ" في الأغنية العربية، أو الاقتباس، لا فرق، ما دام أنها، في المحصلة، لم تدل بصوتها الصريح في الهاتف، أعني في صندوق الاقتراع الذي يراقبه عسس السلطان. وليس مهماً في هذه الحالة، أن يهدر المواطن العربي العمر كله على هذا الهراء "التصويتي"، ما دام المطلوب "الشمّ" وليس "التذوّق"، على غرار الديمقراطيات العربية نفسها.
وعند خاتمة المطاف، في زمن اختلاط الحابل بالنابل، والأخ بالعدو، والوطنية بالخيانة، لم يعد العرب يجدون من سبيل غير مطاردة الكذبة إلى أقصى سرابها، مع الاستعداد الكامل لتصديقها، انسجاماً مع أغنية فيروز التي جعلوها عنواناً لمرحلتهم السرابية نفسها، وأعني بها: "تعَا ولا تيجي.. واكذب عليّ.. الكذبة مش خطية". وفي هذه الحالة، صاروا يصدّقون كذبة "الحرية"، وخدعة "الربيع العربي"، و"السلام مع إسرائيل"، و"إسلام داعش".. و"المستبدّ العادل"، وغير ذلك من أوهام.
عموماً، ومع قرب الانكشاف العربي التام أمام مرايا الواقع، لن يعود بعيداً اليوم الذي ستسود فيه أغنية: "بحبك يَ حمار".
كنت أطمح طوال عمري، بعد "عاقل ليلى"، والشنفرى، وعروة بن الورد، إلى بزوغ شخصيات عربية مماثلة، قادرة على ابتكار تمردّها الخاص على حياة المستنقعات والأسن الفكري والاجتماعي، شخصيات تتمسك بالحب في ذروة الحرب، كي لا تموت مرتين.
في المقابل، وبعد أن أنشب التردي الفكري والحضاري أنيابه في أدمغتهم، بدأ العرب يلجأون إلى التنفيس عن إرادتهم المعطوبة، باختراع نوعٍ من العشق السياسي، الذي يحمل قدراً كبيراً من الأشغال الشاقة، التي يدرجونها في أغانيهم.
فبعيد مفتتح القرن الماضي بقليل، حين كان الطغيان الاستبدادي متفرداً في الرقاب العربية، وقبل وصول نظريات المعارضة إلى الشارع، سادت أغان عاطفية تعبر، في باطنها، عن ولع غريب بالحكام، فلجأ العرب إلى أغنية ليلى مراد ونجيب الريحاني، للتعبير عن تبجيلها الجلاد، وأعني بها: "عشانك إنتي أنكوي بالنار ولقّح جتّتي.. وادخل جهنم وانشوي بالنار واقول يااالهوتي"، على الرغم من أن كاتب هذا "الفصل من الجحيم"، لم "يلقّح جثته"، من أجل الحبيب، بل كان على استعداد أن يفعل ذلك للسلطان فقط.
في مرحلة لاحقة، يوم بدأ الطغاة يرتدون أقنعة الديمقراطية الزائفة والبرلمانات الصورية، آثر هذا المواطن الغلبان أن يختار من موسوعة أغاني العشق العربي أغنية شادية حصراً: "مخاصمني بقاله مدة".. وفي هذه الحال، عليه أن يحذو حذوها في تلك الليلة التي هزّها الشوق إلى حبيبها، فلم تبادر إلى مصالحته، بل آثرت، عوضاً عن ذلك، أن تفاقم من تمزّقها الداخلي، بالاكتفاء برفع سماعة الهاتف وإدارة قرصه، وطلب رقم عشيقها، من دون أن تنبس ببنت شفة، بل كان يكفيها من ذلك كله سماع كلمة "ألو" منه، ثم حين أعجبتها اللعبة، راحت ترفع السماعة وتدير أسطوانة لعبد الحليم حافظ، موظفة "التّناصّ" في الأغنية العربية، أو الاقتباس، لا فرق، ما دام أنها، في المحصلة، لم تدل بصوتها الصريح في الهاتف، أعني في صندوق الاقتراع الذي يراقبه عسس السلطان. وليس مهماً في هذه الحالة، أن يهدر المواطن العربي العمر كله على هذا الهراء "التصويتي"، ما دام المطلوب "الشمّ" وليس "التذوّق"، على غرار الديمقراطيات العربية نفسها.
وعند خاتمة المطاف، في زمن اختلاط الحابل بالنابل، والأخ بالعدو، والوطنية بالخيانة، لم يعد العرب يجدون من سبيل غير مطاردة الكذبة إلى أقصى سرابها، مع الاستعداد الكامل لتصديقها، انسجاماً مع أغنية فيروز التي جعلوها عنواناً لمرحلتهم السرابية نفسها، وأعني بها: "تعَا ولا تيجي.. واكذب عليّ.. الكذبة مش خطية". وفي هذه الحالة، صاروا يصدّقون كذبة "الحرية"، وخدعة "الربيع العربي"، و"السلام مع إسرائيل"، و"إسلام داعش".. و"المستبدّ العادل"، وغير ذلك من أوهام.
عموماً، ومع قرب الانكشاف العربي التام أمام مرايا الواقع، لن يعود بعيداً اليوم الذي ستسود فيه أغنية: "بحبك يَ حمار".