ويبدو أنّ هذا "الفخّ" الذي وقعت فيه ماي يعود لمراهنتها على مجموعة من الدول الأوروبية غير المركزية، والتي تدعم المرونة في التفاوض مع بريطانيا، مقابل الموقف المتشدّد الذي يتصدّره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذي يحاول أن يصوّر نفسه على أنّه بطل الليبرالية الأوروبية، في وجه الشعبوية اليمينية، والتي يعدّ "بريكست" أحد نتائجها.
ولم يكتف ماكرون بإقناع القادة الأوروبيين بعدم التنازل لبريطانيا، بعد وصفه خطة ماي بأنها "غير مقبولة"، بل هاجم أيضاً السياسيين البريطانيين ممن قادوا حملة خروج بريطانيا من "الاتحاد الأوروبي"، ونعتهم بالكاذبين عبر قوله "إن أولئك الذين يقولون إننا نستطيع العيش بسهولة من دون أوروبا، وإنّ كل شيء سيكون على ما يرام، وإننا سنعود بالكثير من المال إلى خزينتنا، هم كاذبون". وهو ما أثار غضب متشددي "بريكست"، إذ قال إيان دنكان سميث، زعيم حزب المحافظين السابق: "إن السيّد ماكرون لم يتجاوز حدوده فقط، ولكنه مخطئ تماماً. إنّ الاتحاد الأوروبي يتنمّر كعادته على المملكة المتحدة، وبشتى الطرق لدفعنا لتبني موقف مختلف".
إلا أنّ سميث وزملاءه، مثل بوريس جونسون وجاكوب ريس موغ، يريدون من ماي أن تتبنّى موقفاً مختلفاً، ويتبعون سبلاً لا تختلف جداً عن أسلوب ماكرون. فلطالما هدّد متشددو "بريكست" بعرقلة خطة "تشيكرز" والتصويت ضدها، بل وهددوا بالتصويت على سحب الثقة من رئيسة الوزراء في حال لم تتراجع عن خطتها تلك. ومع عودة ماي من سالزبورغ خائبة، وبقاء أسبوع على مؤتمر حزب المحافظين السنوي، ينتظر من متشددي "بريكست" ممارسة المزيد من الضغوط لحرف مساره باتجاه صفقة تشبه النموذج الكندي، تكون فيها بريطانيا خارج السوق الأوروبية المشتركة وخارج الاتحاد الجمركي كلياً. ولكن جهودهم ستقف دون الإطاحة بها من رئاسة الوزراء، لما قد يحمله هذا الخيار من قلاقل سياسية قد تنتهي فعلاً بوصول حزب "العمال" إلى "10 داوننغ ستريت".
ويركز متشدّدو "بريكست" الآن على نواب حزب المحافظين المترددين ممن لم يدعموا "تشيكرز"، ولكن أرادوا منح رئيسة الوزراء الفرصة في سالزبورغ. وبالفعل، لم ينتظر ستيف بيكر، والذي استقال من حكومة ماي في شهر يوليو/ تموز الماضي على خلفية طرحها للخطة، طويلاً، إذ سارع لمراسلة جميع النواب المحافظين فور نهاية القمة الأوروبية، لتقديم خطة متشدّدي "بريكست" كبديل عن خطة ماي.
في المقابل، قال ديفيد ديفيس، وزير "بريكست" السابق، والذي استقال من الحكومة أيضاً بسبب "تشيكرز"، إنّه يجب على رئيسة الوزراء تغيير مسارها والسعي للتوصّل إلى اتفاق على النموذج الكندي، مضيفاً أنه "من الواضح الآن ماهية التكتيكات الأوروبية. البرلمان لم يكن ليصوت لصالح تشيكرز، ولن يدعم الآن أكثر من تشيكرز. لقد حان الوقت لرئيسة الوزراء أن تبدأ التفاوض من جديد وأن تقبل بالعرض الذي تقدّم به تاسك في مارس/ آذار، وأن تقبل بصفقة تجارة حرة عادلة".
ولا تنتهي متاعب ماي عند متشددي "بريكست"، بل إن مؤيدي الاتحاد الأوروبي من حزبها، يعيدون النظر في دعمهم لخطة "تشيكرز". ونقلت صحيفة "تايمز" البريطانية عن أحدهم قوله: "لم تخفَ على أحد صعوبة وضع خطة تشيكرز، ولكن خلال الحديث مع زملائنا كانت ردّة الفعل الصادمة من نتيجة سالزبورغ... إنّ مصداقيتها الآن على المحكّ، ويبدو أنّ الوقت قد حان للدفع ببديل آخر مثل النرويج". ويعدّ الخيار النرويجي الأمثل لمؤيدي الاتحاد الأوروبي، كون بريطانيا تحافظ فيه على عضويتها في السوق الأوروبية المشتركة والاتحاد الجمركي، ولكنها تخرج من مؤسسات الاتحاد الأوروبي السياسية.
إلا أنّ التصريحات الأولية الصادرة عن معسكر ماي تشير إلى أنها تعتقد أنّ الرفض الأوروبي لـ"تشيكرز" ما هو إلا استراتيجية تفاوضية وليس رفضاً قاطعاً، وبذلك فإنها لن تتراجع عنها. وقالت ماي بعيد انتهاء المؤتمر الأوروبي، الخميس، إنّ الرفض تكتيك أوروبي تفاوضي بهدف تقويض موقفها، موضحةً "لقد قلت دائماً إن هذه المفاوضات ستكون صعبة... وفي مراحل مختلفة من هذه المفاوضات، تستخدم تكتيكات كجزء منها".
وأكدت ماي أنّ "تشيكرز" هي الطريق الوحيد لضمان سير التجارة بحرية عبر الحدود الإيرلندية بعد عام 2019، وقالت "إنّ ورقتنا البيضاء تظلّ المقترح الوحيد الجدي والعملي على الطاولة لتحقيق ذلك الهدف"، مشيرةً إلى أنّه وفي حال فشل المفاوضات، فإنّ الحكومة مستعدة للتعامل مع احتمال "بريكست" من دون اتفاق "إذا وصلنا إلى وضع لا يوجد فيه اتفاق، فإنّ الشعب البريطاني سيكون على ثقة بأننا سنقوم بما هو ضروري".
وهو ما أكّده أيضاً وزير المواصلات، كريس غرايلنغ، الخميس، بقوله إنّ "لا نية لتعديل تشيكرز"، وأن المطالب الأوروبية حول إيرلندا الشمالية "مستحيل" أن تقبل بها بريطانيا. وأضاف "لن نقبل بالحدود بين إيرلندا الشمالية وبقية المملكة المتحدة. إننا نحضّر الآن لخيار بريكست من دون اتفاق. لا نريد الاتجاه إليه، ولا نتوقّع أن نصل إليه، ولكن شركاءنا الأوروبيين، إن أرادوا الوصول إلى اتفاق، عليهم إدراك أنّ هناك بعض الأمور التي لن نستطيع القبول بها".
من جانبه، وجه تاسك تحذيراً بضرورة التوصّل إلى اتفاق مساندة حول الحدود الإيرلندية بحلول قمة أكتوبر، لتجنّب الحدود الصلبة في الجزيرة الإيرلندية، وإلا فإنّ محادثات "بريكست" ستنهار. وقال "تحين لحظة الحقيقة لمفاوضات بريكست في قمة المجلس الأوروبي في أكتوبر. ومن دون الختام في أكتوبر، بمعناه الإيجابي، لن يكون هناك داع للقمة الخاصة في نوفمبر".
أما حزب "العمال" البريطاني، فقد استغلّ الفرصة لتسجيل نقاط على الحكومة المحافظة. وقال كير ستارمر، وزير "بريكست" في حكومة الظلّ العمالية: "لقد كان جلياً لأسابيع أنّ مقترح تشيكرز الخاص بتيريزا ماي لن يستطيع توفير الخطة الشاملة التي نحتاجها لحماية الوظائف والاقتصاد وتجنّب الحدود الصلبة في إيرلندا الشمالية. يجب أن تتخلّى فوراً عن خطوطها الحمراء الهوجاء وأن تتقدّم بخطة مقبولة للبريكست".
إلى ذلك، نشرت صحيفة "إندبندنت" نتائج استطلاعين للرأي يخلصان إلى أنّ دعم حزب "العمال" للاستفتاء الثاني على "بريكست" سيمنحه الدعم الذي يحتاجه للفوز في الانتخابات العامة. وأشار الاستطلاع الأوّل، إلى أنّ حزب "العمال" سيكسب مليوناً ونصف المليون صوت إضافي في حال تبنيه المطالبة بالاستفتاء الثاني على الصفقة النهائية. أمّا الاستطلاع الثاني، فيشير إلى أنّ تبنّي حزب العمال لهذا المطلب سيدفع به للفوز بدوائر انتخابية جديدة وهامشية، حتى بين داعمي الخروج من الاتحاد الأوروبي. وكانت "إندبندنت" قد أطلقت حملة "القول الفصل" للمطالبة باستفتاء ثانٍ على نتيجة مفاوضات "بريكست"، وحصلت عريضتها على توقيع أكثر من 800 ألف شخص إلى الآن.