يحتار سلام الزهيري إزاء تحوّلات مفروضة عليه، في ظلّ حرب غير مكتفية بجانبٍ عسكري، فللصراع الديني الطائفي ثقلٌ تفرضه جغرافيا ملتهبة بأصوليات قاتلة. والحيرة ـ إذْ تنبثق من انفعالٍ إزاء مصير طائفةٍ منتمٍ إليها تكاد تندثر كلّيًا، لانغلاقها على نفسها، ولكونها أقلية دينية طائفية كأقليات أخرى في بلاد ما بين النهرين، تلك البلاد التي تعاني أهوال التغييب والتصفية متنوعة الأشكال والأساليب ـ تجد في ذاته حيّزًا روحيًا ونفسيًا وفكريًا لنزاعٍ من نوع آخر، سيكون مهمًّا بدوره، لأنه جزءٌ من ثقافة وتربية والتزام يعرفها سلام الزهيري كلّها، ويعيشها: نزاع بين إيمانٍ وفنّ.
حروب الجغرافيا، وبعض أسبابها متأتٍ من تاريخ غير منتهٍ، تُضاف إلى نزاعات يُفترض بها أن تطرح أسئلة تتكامل وتلك المطروحة ـ وإنْ بشكل ضمني ـ في سلوك بيئات تتصارع وفقًا لالتزامات موغلة في تعصّبها وتحجّرها وانغلاقها، هي أيضًا، على نفسها. وإذْ ينتمي سلام الزهيري وعائلته إلى طائفة المندائيين، وهو فيها برتبة "اشكندا" (رتبة رجل دين صابئي)، فإن حروب العراق دافعٌ إلى بحثٍ عن منفذ لخلاص ربما يكون مؤجّلاً، في بيئة معرّضة لنزيفٍ مديد. حروب العراق تلك تضعه وعائلته أمام معضلة مرتبطة بوجودهم الذي يُشبه مصيره ذاك المتعلّق بمصير الطائفة برمّتها، وطبعًا مصائر بلاد ومجتمعات أيضًا.
ما تفعله السورية مايا منيّر (1980)، في الوثائقي الطويل الأول لها "بيت النهرين" (سورية، 2018، 76 دقيقة) ـ المشارك في مسابقة الأفلام الوثائقية في الدورة الـ8 (5 ـ 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2018) لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية" في السويد ـ معقودٌ على متابعة بصرية لسيرة سلام الزهيري وزوجته هناء وأولادهما الثلاثة نورا وأنور ويوهان، من العراق إلى سورية، ومن شكل العلاقات القائمة بينهم ومضمونها إلى معنى الهجرة واللجوء، ومن أسئلة الإيمان والانتماء الديني والالتزام الطائفي إلى الفضاء الواسع للفنّ، وبعض الفن منبثق من موروث تاريخي غنيّ، ومتأتٍ من زمن بابل. متابعة بصرية تريدها مايا منيّر تعريفًا بطائفة المندائيين، عبر حكاية سلام وهناء، اللذين يلتقيان في جامعة بغداد، واللذين يدرسان الفنون، واللذين يتزوّجان ويُنجبان، قبل أن يتدرّج سلام في موقعه الديني ـ الطائفي.
لكن تعريفًا كهذا لن يتفرّد بالمبنى الحكائيّ لـ"بيت النهرين". فمايا منيّر تلاحق سلام الزهيري في تساؤلاته المتعلّقة بصناعة تماثيل طينية، يبرع فيها لكنه يحتاج إلى صقل تجديدي في مقاربته أسئلة الحياة والموت والذاكرة والراهن، كما يُقال في لقائه النحات فادي اليازجي. قلقٌ إزاء تصادم يراه قائمًا بين الدين والفن، رغم أن ابنته نورا، غير الملتزمة دينيًا أو طائفيًا، لن تجد في مزاولة الفن ضررًا لرجل الدين، بل ربما تكثيفًا لالتزامه وقناعاته الدينية.
قلقٌ كهذا يُضاف إلى قلق الحروب. فالعراق مُقيم في تشرذمه وتمزّقاته وانكساراته، والمنتمون إلى أقليات دينية وطائفية وإتنية يتحوّلون سريعًا إلى "ضحايا" الجنون المنتشر في أصقاع العراق وجواره. الخوف طاغٍ. الرغبة في أمانٍ طاغية. السعي إلى خروج آمنٍ للعائلة الصغيرة يعني انفصالاً عن عائلة أكبر. الطائفة كلّها محتاجة إلى مساحة آمنة لعيشٍ مُطْمَئنٍّ. عام 2004 سيكون لحظة الانفصال والخروج، ودمشق ستكون الوجهة والإقامة، لكن حربًا ستندلع في سورية أيضًا، وسيكون سؤال الهجرة والمنفى مطروحًا، مرة أخرى، على عائلة الزهيري.
التداخل كبيرٌ بين خصوصية عائلة وخصوصية طائفة، في حروب دول ومجتمعات. معاينة أحوال الطائفة، بمتابعة مايا منيّر لها ولطقوسها ومقدّساتها وتفاصيلها الداخلية (كيفية الصلاة، اللغة المستخدمة، النصوص الدينية، التقاليد المعتَمَدة في احتفالات خاصة... إلخ)، يترافق مع متابعة أحوال العائلة، وضمنيًا أحوال جغرافيا وبلاد وثقافات. الاستعانة بمقاطع مُصوّرة عن المندائيين (عمل غير مُنجز للسوري الراحل نبيل المالح: مشهد الزواج، العرس الديني، إلخ) إضافة تكشف شيئًا من أحوال الطائفة وطقوسها. هذا كلّه في متتاليات بصرية تجمع العناوين كلّها في سياق توثيقيّ لن يخرج كثيرًا على النسق التقليدي في صناعة الفيلم التسجيلي، بقدر ما يُحافظ على بساطة في التصوير (مايا منيّر) والمونتاج (محمد علي المالح) تسمح بالتنبّه إلى الموضوع أكثر.
"بيت النهرين" (إنتاج "مؤسّسة سينمايا للإنتاج الفني"، التي أسّستها مايا منيّر نفسها في دمشق عام 2013، بمشاركة تمويلية من "اتجاهات ـ ثقافة مستقلّة") عمل توثيقيّ يتيح للمهتمّ تعرّفًا على طائفة تكاد تنقرض، وعلى تبدّلات بلدان ومجتمعات تكاد بدورها تنقرض، وعلى مصائر أفراد وحكاياتهم الراهنة.