"بي بي سي".. رواية إسرائيل أولاً ودائماً (1-2)

05 ديسمبر 2014
انتهاء اعتصام أمام مقر الـ"بي بي سي" في لندن(2يوليو/2014/الأناضول)
+ الخط -

مجدداً، تظهر تغطية  الـ"بي بي سي" للصراع  الدائر الآن في القدس المحتلة انحيازها للرواية الإسرائيلية.

يقول مراسل الـ"بي بِي سي" بالانجليزية، والنص المنشور في الموقع العربي والمترجم بدقة، إن إغلاق المسجد  الأقصى أمام المصلين تم بعد إطلاق النار على "ناشط يهودي يميني"، كان يشارك في مؤتمر يبحث في"توسيع حق اليهود" في الحرم الشريف. أي أنه كان رداً على ما قام به الفلسطينيون، تماما كما بررت، قبل أسابيع، العدوان على غزة وطوال الوقت، بأنه رد على هجمات فلسطينية، وليس ضمن سياسات إسرائيلية تصعيدية في أراضي تحتلها قوات أجنبية.

نص الرواية الاسرائيلية على موقع المحطة عن استشهاد معتز حجازي، في مطلع الشهر الماضي كاملاً، وهناك تغييب للرواية الفلسطينية، ليس الرسمية فحسب، بل ما رواه ذوو الفقيد وجرت الإشارة إليه في رسالة بثت في وقت مبكّر.

"معتز حجازي عضو في مجموعة متشددة، تقول الشرطة إنه أطلق النار عليهم، بينما كانوا يحاصرون المنزل، وأنهم ردوا على النار، وتمت إصابة المتهم". يتحدث النص بتفاصيل عن أصابة "الناشط اليهودي" في معدته وقلبه، وبالطبع، ولا حرف عن كيفية قتل معتز، على الرغم من أن الرواية والرواة موجودون، الأب الأخت الأخ.

في موضع آخر، يعتبر مراسل "بي بي سي"، كيفين كونيكي، أن "المجمع، المعروف بجبل الهيكل لليهود، ويضم المسجد الأقصى ثالث الأماكن المقدسة عند المسلمين، هو أكثر مكان مقدس لليهود".لغة مخادعة توحي بحق اليهود في المَجمَع كله.

يظهر موقع الـ"بي بي سي"، بالعربية وبالإنجليزية وعشرات اللغات الأخرى، مجسماً يسمي  ساحة المسجد الاقصي بـ"جبل الهيكل"، يشير إلى "الحائط الغربي"، لكنه، هنا، يتناسى أن المسلمين يسمونه حائط البراق. وتعزيزاً  للرواية الإسرائيلية التي توحي بأن الصراع، الآن، في القدس صراع  ديني، ويدور حول حقوق العبادة والصلاة في مكان مقدس للجميع. يلتقي المراسل وزير الاقتصاد الاسرائيلي، نيفتال بينيت، الذي يشكو حرمان اليهود من الوصول إلى أكثر الأماكن اليهودية  قدسية. لا وجود، بالطبع، لمسؤول فلسطيني يرد عَلى مزاعم المسؤول الإسرائيلي. وقد سبق وأن اتهمت "بي بي سي" بأنها أصبحت ناطقة باسم إسرائيل من كثرة الناطقين العسكريين والسياسيين الذين تم مقابلتهم في أثناء العدوان على غزة، في غياب متحدثين فلسطينيين وهي تكرر ذلك مجددا.

وكالعادة، تغييب شبه كامل ومتكرر، لذكر ما تقره الأمم المتحدة عن احتلال إسرائيل للقدس الشرقية، وكونها محتلة، وأنها جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة، قاعدة يتم العمل بها إلا في ما ندر، ومع وجود محررين كبار، مثل جيرمي بوين، يستخدمون لبث بعض التوازن.

لا يتوقف الأمر عند تبني الرواية والمصطلحات الإسرائيلية، ومنح المسؤولين كل اللازم من الوقت، بل والمساهمة في بث روايات أجهزة الأمن الإسرائيلية وإشاعاتها، من دون تمحيص، كما حدث يوم 27 من الشهر الماضي، عندما نقلت مواقع  "بي بي سي" عن "الشين بيت"(الشاباك) جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، قصة القبض على 30 "متطرفاً" من حماس، تدربوا في الخارج، وخططوا لاختطاف إسرائيليين، وضرب ملعب لكرة القدم والقطار الخفيف في القدس وأهداف أخرى في الداخل والخارج"، وذلك من دون أي محاولة، خلال 400 كلمة، للتحقق من صحة الرواية، أو الاستعانة برأي من الطرف الآخر المتهم، ونفيه صحة تقارير المخابرات الإسرائيلية.

إنحياز أشد وقت الأزمات

ويبدو انحياز "بي بي سي" لإسرائيل أكثر وضوحاً وقت الأزمات، فخلال العدوان على غزة مر أسبوع من القتل والفتك  والتدمير بالفلسطينيين، وقبل ذلك في الضفة الغربية، قبل أن ترسل هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" محرراً قديراً (جيرمي بوين)، ليعرض، في دقائق، بعض أسباب العدوان الإسرائيلي: فشل جهود إقامة الدولة الفلسطينية وفك حصار غزة، استمرار الاحتلال، استمرار الحصار الخانق. وذكر ملاحظة، نادرة في هذه الأيام، أن 80% من سكان غزة لاجئون، طُردوا من بلادهم جنوب فلسطين، على مرمى حجر من مخيماتهم.

بعد بوين بثوانٍ، ولإظهار شيءٍ من التوازن، تدّعيه الهيئة، عندما يحلو لها، منح مراسلها، في الجانب الإسرائيلي، مزيداً من الوقت، ليعيد تذكيرنا بأن "الحرب بين غزة وإسرائيل" هي انتقام، وردّ على الصواريخ التي يطلقها "المتشددون" في غزة، كما يقال كل الوقت، من دون حتى محاولة تجنب التكرار، ولإظهار أن "إسرائيل تحت القصف"، وأن المدنيين مساكين، تراهم فقط هاربين إلى الملاجئ، ولكي يقول إن هدف نتنياهو "وقف إطلاق الصواريخ على المدن الإسرائيلية".

الردّ على الصواريخ، أو القذائف، العمليات الاستشهادية، رفض الاستسلام الكلي أو بعضه، والتمسك بالحقوق وبعض الثوابت، استدعى دائماً الانتقام الإسرائيلي. ولطالما عمل الفلسطينيون والعرب وأصدقاؤهم لفضح هذه الكذبة التي يتكرر اعتمادها، في كل مرة، تنشب فيها المعارك مع إسرائيل الغازية دائماً.

مئات العرائض ورسائل الاحتجاج على سياسات الهيئة، أبحاث عديدة حول انحياز التغطية وغياب التوازن والموضوعية، في كل فروعها، والنتيجة تدهور متواصل في أداء المؤسسة مهماتها، المحددة في ميثاق "بي بي سي"، قبل أكثر من ثمانية عقود، في الإعلام والتعليم والتسلية، بالتزام "الموضوعية والإنصاف والتوازن"، تدهور قاد، في تموز الماضي، إلى انطلاق أكبر مظاهرة في السنوات الأخيرة على العدوان الإسرائيلي، من أمام مقر الهيئة في لندن. وذلك كله من دون ظهور تغيير ملموس في سياسات "بي بي سي" تجاه القضية الفلسطينية وقضايا الحرية والديمقراطية في المنطقة.

السياسة نفسها وشكاوى مريرة كثيرة ودراسات عديدة، أهمها كتاب" أخبار سيئة من إسرائيل"، لمؤلفيه جريج فيلو ومايك بيري من جامعة غلاسكو، عام 2006، وثقت حقائق دامغة عن تحيز "بي بي سي" لإسرائيل، أجبرت مجلس إدارة الهيئة الممولة من المواطنين البريطانيين، على تشكيل لجنة " تومسون" الرسمية للنظر في سياسات الهيئة عام ٢٠٠.
توصيات وضعت جانبا
أ
قرت اللجنة، في تقريرها، بصحة دعاوى كثيرة ضد الهيئة بمحاباة إسرائيل، في تغطية الصراع العربي الإسرائيلي، وحيث "لا يتم تقديم الصراع باستمرار بطريقة شاملة ومنصفة، بل، إنها، وفي جوانب كثيرة، تكون غير كاملة ومضللة". وطالبت بالتزام الموضوعية والتوازن، وبنشر خلفيات للأخبار، توضح الأسباب والخلفيات التاريخية للصراع، وشكلت لجنة للتدقيق في كل ما ينشر من أخبار عن القضية الفلسطينية. فماذا حدث!

لوحظ مؤقتاً بعض التغيير، لجهة بعض التوازن في عرض الموقف العربي الفلسطيني، لكن ذلك ارتبط بوجود إعلاميين بريطانيين خبراء في تاريخ القضية. قليل من التوازن، ما لبث أن تآكل، لأن السياسة الموصى بها خلت من آلية ثابتةٍ لتطبيقها، وبلورتها نهجاً في مطبخ التحرير والبرامج الإخبارية.

تمثل هذا الفشل بوضوح، في تغطية "بي بي سي" العدوان الإسرائيلي عام 2009، على قطاع غزة، حيث قتل أكثر من ألف فلسطيني، وجرى تدمير معظم البنى التحتية في القطاع، المنكوب أساساً، آنذاك، بالخلافات بين حماس وفتح، وبحصار إسرائيل ونظام حسني مبارك.

مجدداً، وضع مركز غلاسكو للدراسات الإعلامية تغطية "بي بي سي" ذلك العدوان تحت المجهر. ونشر الأكاديمي، جريج فيلو، مجدداً، عام 2011، كتابه الآخر "أخبار سيئة أكثر من إسرائيل". وكما في كتابه الأول، أظهرت نتائج البحث وجود سياسة تحريرية منحازة لإسرائيل، تتبلور عبر ما يستخدم من مصطلحات ونصوص، وما يبث من صور، وحيث لا يترك أي شيء للمصادفات: كل كلمة، كل جملة، كل لقاء، كل سؤال، كل صورة، ومن أي زاوية، قربها أو بعدها يساهم في تكوين وعرض مشهد بالصوت وبالصورة، بشكل مباشر، أو غير مباشر يظهر "حق إسرائيل في الدفاع" عن نفسها في مواجهة الصواريخ القادمة من أماكن "يسكنها متطرفون وبشر كثيرون مختلفون ومتخلفون". وكل هذه الدماء، والدمار الهائل الذي نراه جزء من الردّ، وجزء من انتقام مستحق، وعمل تأديبي، مهما كان كارثياً، كما جرت العادة، كل بضعة أعوام، ولكن، ودائماً، بالطبع، من دون أن "يتأدب" أحد، أو يخرس بالأحرى، عن المطالبة بالحقوق وبالوطن المحتل، أو بالتطلع الإنساني نحو حياة عادية وكريمة.
ناطقين إسرائيليين معظم الوقت
في العدوان على غزة في يوليو/ تموز الماضي، أظهرت العناوين، على مدار أيام في نشرات "بي بي سي"، أن إسرائيل "تتعرض مجدداً لهجوم حماس"، مبررة مئات الغارات الجوية الإسرائيلية المهلكة، وكونها جزءاً من "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، كما يعلن الساسة في لندن وفي واشنطن، أين يتم غالباً تبني الإعلام للرواية الإسرائيلية، وحيث يصبح الإعلامي مجرد بوق للمسؤولين والسياسيين؟

في التفاصيل، أظهرت نشرات أخبار "بي بي سي" المدنيين الإسرائيليين، وغالباً مع أطفال، يهرعون إلى الملاجئ، وترى في الجانب الفلسطيني تبريراً لغارة مدمرة، أحدثت حفرة هائلة، لأن "المتشددين كانوا بالقرب من هنا"، حسب ما نقلته المراسلة، يولاندي كنيل، عن مواطن غزي ..(هل هناك في غزة من يصف عناصر الفصائل بالتشدد أو بالتطرف، أم أن الأمر تحويرٌ، ليتناسب مع  تعليمات وصف عناصر الفصائل بالتطرف والتشدد؟) وفي المشهد نفسه: وجوه بائسة وصراخ منفر، وجثامين لا يتم التعامل معها باحترام، وحيث لا يعبأ الناس بوقتهم وحياتهم، ولا يستحقون الاحترام أو التعاطف.
 
الملاحظة نفسها يوثقها جريج فيلو، في كتابه الثاني، كيف ظهرت يولاندي كنيل، مراسلة "بي بي سي" في العدوان الأخير، كما في في العدوان السابق، إن الصواريخ تقلب، رأساً على عقب، حياة الإسرائيليين العاديين الذين يستحقون الرأفة، بينما يعيش الناس في غزة أقرب إلى الحياة العادية، أي أن هؤلاء لا يقدّرون الحياة العادية.

حاولت المذيعة منح الجيش الإسرائيلي والمؤسسة الأمنية شرف احترام الجيوش قوانينَ الحرب. فصواريخ "المتشددين والمتطرفين"، كما يقال دائماً، عشوائية، وتستهدف "ثلاثة أو أربعة ملايين إسرائيلي (مجموع سكان إسرائيل ناقص التعداد الفلسطيني في الداخل)، أما قصف غزة فهو دقيق، موجه إلى هدف محدد، يسبقه تحذير، يجري إبرازه وقبوله مبرراً، ورخصة للقتل والتدمير.