لم يكن تصعيد النظام المصري الأخير ضد أهالي سيناء، والذي وصل إلى حد تهجيرهم قسراً من أراضيهم، الأول من نوعه فالعلاقة بين الطرفين تتسم بالتأزم منذ سنوات، ومرّت بأزمات كثيرة. لكن هناك تاريخ فارق ومفصلي في هذه الأزمات هو "أحداث طابا" عام 2004، عندما وقعت تفجيرات عدة في المناطق السياحية في شرم الشيخ وطابا ودهب، لتشكل إيذاناً ببداية تغليب السلطات الحل الأمني الذي يتخذ منحى تصاعدياً منذ ذلك الحين.
يقول الباحث والناشط السيناوي، عيد المرزوقي، لـ"العربي الجديد" إن ما تشهده سيناء اليوم هو نتيجة تراكمات الحلول الأمنية الفاشلة، وأنه تنبغي الإشارة أولاً إلى الأسباب الحقيقية لفشل الحملة العسكرية للقوات المسلحة التي بدأت عقب الانقلاب العسكري تحت مسمى مكافحة الإرهاب".
ويلفت إلى أنه "في تفجيرات طابا تم تغيير السياسة الأمنية تجاه هذه المنطقة، وشنّ وزير الداخلية في عهد حسني مبارك، حبيب العادلي، أكبر حملة أمنية في تاريخ النظام البائد. وتمّ وضع الجميع داخل سيناء في خانة الجاني وجرى التعامل مع السكان على هذا الأساس، من دون مراعاةٍ لطبيعة المكان وعادات وتقاليد البدو التي تعتبر المساس بالمنزل بمثابة مس شيء مقدس".
ويوضح أن "الحملة الأمنية قامت باعتقال خمسة آلاف شاب دفعة واحدة من دون محاكمات، مما زاد الأمور تعقيداً، وهنا بدأت الأزمة الحقيقية التي تشهدها اليوم سيناء". ويشير إلى أنه "بدلاً من أن تدرك الدولة فداحة ما فعله رجالها وتقوم بتصحيح الأخطاء، تمادت في الحلول الأمنية الفاشلة مع استمرار الإقصاء والتهميش وغياب كامل لخطط التنمية".
كما يلفت إلى أنه "بعد الانقلاب العسكري وإعلان بدء العمليات العسكرية ضد ما يسمى بالإرهاب في سيناء، بقيادة قائد الجيش الثاني الميداني اللواء أحمد وصفي، ضد مجموعة من شباب البدو الذين يحملون أفكاراً جهادية في مواجهة الكيان الصهيوني وعددهم بالعشرات، كان بالإمكان أن تصل القيادات العسكرية إلى حلول عبر التواصل مع مشايخ القبائل وأهالي سيناء".
لكنه يشرح كيف أن "وصفي لجأ منذ أول يوم للحملة إلى فقصف القرى والتجمعات السكانية بصواريخ الطائرات وقذائف الدبابات، مما أدى إلى سقوط ضحايا أبرياء من المدنيين". ويصف المرزوقي ما قام به وصفي بأنه كان "حملة تأديبية" و"عقاباً جماعياً" لسكان سيناء، ولا سيّما أن الحملة بدأت أيضاً في الاعتقالات العشوائية وتفجير منازل المواطنين. ويُضاف إلى ذلك، حرق "عرائش" البدو، وردم الآبار الجوفية، وتجريف أشجار الزيتون. وهي أمور "كانت الفضائيات بما فيها التليفزيون الرسمي تفخر بعرض مشاهدها" وفقاً للمرزوقي.
ويضيف "كذلك بدأ استخدام مصطلح تكفيريين، وكل ما ذكرت زاد الأمور اشتعالاً؛ فالقبائل البدوية لا تتخلى عن أبنائها إذا ظلموا من دون ذنب أو جريمة".
ويلفت إلى أنه "بعد قتل مئات الأبرياء وتفجير ونسف مئات المنازل واعتقال الآلاف من دون محاكمات ومنع العدل عن الناس، نشأت حالة قوية للثأر لدى أبناء القبائل. كذلك فقد الجيش الحاضنة الشعبية بالكامل. وأصبح هناك غياب كامل للتعاون من قبل أبناء سيناء، فبدأت قوات الجيش تتعرض إلى هجمات ثأرية وزاد عدد المسلّحين وانتشارهم، بعدما تولدت حالة غضب ضد القوات المسلّحة".
ووفقاً للمرزوقي، "بدلاً من أن تشتبك الدولة مع المسلّحين فقط، كان يجب أن تشتبك مع ملفات أهم وهي التنمية والمواطنة وحقوق الناس المغتصبة وليس فقط الحلول الأمنية الفاشلة، فسيناء الآن تتجه إلى المجهول" في ظل عملية التهجير التي يقودها النظام لأهالي سيناء.
وعلى الرغم من أن البعض يتساءل عن حقيقة ما إذا كانت قد بدأت عملية تهجير الأهالي من منازلهم، فإن العملية انطلقت بالفعل مع بداية الحملة الأمنية على سيناء منذ 15 شهراً تقريباً، عقب انقلاب الثالث من يوليو/ تموز 2013. وكان قادة القوات المسلّحة المصرية يريدون لهذه العملية أن تتم في هدوء وبعيداً عن أيّ ضجيج إعلامي. ولكن نظراً إلى طبيعة المكان وأهميته الاستراتيجية التي يعيها أبناء وسكان سيناء، فقد انتبهوا لهذا المخطط من البداية.
وهناك ما يشبه الإجماع بينهم، ووفقا لكلامهم، على أن "الجيش لم يأت لمحاربة الإرهاب كما يقول، لكنه جاء ليأخذ أرضنا ويقوم بعملية تهجير قسرية لنا من منازلنا وأراضينا، مستغلاً حجة مواجهة الإرهاب". ويؤكد الأهالي أنهم لن يتنازلوا عن ممتلكاتهم وأرضهم رغم المضايقات التي وصلت حد قطع شبكة الاتصالات لعزلهم عن بقية مناطق الوطن والعالم، ورغم إغلاق الطرق وفرض حظر التجوال.
ولم تتوقف الممارسات الأمنية في سيناء عند هذا الحد، فقد شهدت تطوراً خطيراً ببدء سلسلة من عمليات الاعتقال التعسفي للسكان وإيداعهم في سجن العزولي العسكري. ورغم ذلك فشلت خطة التهجير الهادئ.
ومنذ أيام، وتحديداً يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول، تم تشكيل لجنة في مجلسي مدينتي رفح والشيخ زويد في شمال سيناء، وتم إجراء استبيان وحصر شمل 680 منزلاً مطلوب إخلاؤها. وتقع هذه المنازل في المنطقة الحدودية مع قطاع غزة، وتم إجبار الأهالي على الاختيار بين أمرين، إما التعويض المالي، أو الحصول على قطعة أرض خارج "كردون" المدينة.
وبسبب رفض الأهالي، فقد اضطرت قيادات الدولة إلى الكشف عن الخطة وتقديمها علناً من دون ذكر كلمة "التهجير"، مستغلة الهجوم الأخير الذي شنّه مسلحون مجهولون يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول الحالي على كمين للجيش في منطقة كرم القواديس، غرب مدينة الشيخ زويد.
وبعد الحادث بدقائق، خرجت الفضائيات، المعروفة بتحكم الاستخبارات والشؤون المعنوية للقوات المسلّحة فيها، لتتحدث بلغة واحدة وبمضمون واحد، هو ضرورة تهجير السكان من المنطقة الشرقية لسيناء، وهي شرق مدينة العريش، حتى مدينة رفح، بمساحة 45 كيلومترمربع، وهي المنطقة التي تسمى عسكرياً "المنطقة ج".
والمناطق المطلوب تنفيذ خطة التهجير بها هي مدينة الشيخ زويد ومدينة رفح بداية من شرق مدينة العريش، على مساحة 45 كيلومتراً. وتشمل هذه أكثر من 70 قرية وتجمعاً سكانياً، ويسكنها نحو 150 ألف نسمة. وتضم المنطقة عدداً من قبائل سيناء، من أشهرهم السواركة، الرميلات والترابين.
وعقب ذلك، توالت القرارات بإعلان حالة الطوارئ وفرض حظر التجوال والإعلان عن "إجراءات شديدة في المنطقة الحدودية مع قطاع غزة"، وفقاً لتصريح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وهي منطقة تمتد من ساحل البحر المتوسط، لمسافة 17 كيلومتراً.
وجرى الإعلان عن ذلك رغم وجود حدود مشتركة مع الاحتلال، تمتد 190 كيلومتراً تقريباً. أما الهدف فواضح ومعلن وهو تفريغ المنطقة لصناعة منطقة عازلة مع قطاع غزة، ما يؤدي إلى المزيد من إحكام الحصار وقطع الطريق الوحيد للإمدادات.
ويتساءل المرزوقي "ما علاقة الحادث الأخير بتهجير السكان؟ وماذا لو وصل "الإرهاب" إلى القاهرة؟، هل سيتم تفريغ مناطق وتهجير سكانها منها؟".
ويضيف "لقد شهدت سيناء، منذ إعلان خطة التهجير، حالة من الاستنفار الشعبي، لأن أهل المنطقة ومختلف القبائل فيها يعتبرون ذلك بمثابة إعلان حرب عليهم. ويقولون "لن نترك أرضنا التي عشنا فيها حياتنا وولدنا بها، ولا أحد يزايد على وطنيتنا فلم نهجر أرضنا وقت الاحتلال الصهيوني لها، صمدنا وقاومنا وقدمنا الشهداء والتضحيات. أما إذا كانت الدولة تريد السيطرة على هذه المنطقة، وجعلها منطقة عازلة كورقة ضغط تستغلها إقليمياً ودولياً فليس على حسابنا".
ويحذّر المرزوقي من أن الإصرار على تنفيذ خطة التهجير سيؤدي إلى إشعال المنطقة وجعلها ككرة اللهب، نتيجة ما قد يحدث من اتساع المواجهات، وازدياد "الأعداء" الذين يواجههم الجيش المصري. أما استخدام القصف بالطائرات وسياسات هدم المنازل، فإنها لن تؤدي على المدى المتوسط والبعيد إلى كارثة.