وفيما تؤكد المعارضة السورية جهوزيتها للشروع في مفاوضات مباشرة مع النظام للتوصل إلى حل وفق قرارات الأمم المتحدة، لا يزال النظام يبتز المجتمع الدولي، محاولاً خلط أوراق التفاوض قبل انطلاقه في محاولة لتغيير معادلات دولية واضحة، إذ لا مناص من تغيير عميق وجذري في سورية. وربما كان النظام يعوّل على تغيير في خطاب المعارضة السورية، خصوصاً لجهة مصير بشار الأسد، لكن بيان المعارضة في الرياض منذ أيام أوضح أنه لا تنازل عن انتقال سياسي من دون وجود للأسد فيه، وهو ما أثار استياء لدى النظام، يحاول ترجمته من خلال إفشال مساعي الأمم المتحدة في تفاوض حقيقي في جنيف.
وعشية انعقاد مفاوضات "جنيف 8"، شدد المبعوث الأممي إلى سورية ستيفان دي ميستورا، على ضرورة أن تجري الجولة المقبلة من مفاوضات جنيف بين وفدي النظام والمعارضة، من دون شروط مسبقة، موضحاً أن خطة العمل يمكن أن تبدأ بالتركيز على تنفيذ القرار 2254 الذي خلص لهدف نهائي هو تنظيم انتخابات عادلة بإشراف الأمم المتحدة، مؤكداً أنه يجب أن تجري المصادقة العامة على دستور جديد ويجب التوصل للدستور من خلال عملية جامعة. وأكد أن وفد النظام السوري لم يصل إلى جنيف أمس، لكنه أعرب عن أمله بأن يصل الوفد إلى جنيف في القريب العاجل للمشاركة في المفاوضات. وقال، خلال مؤتمر عبر الدائرة التلفزيونية المغلقة مع مجلس الأمن الدولي، أمس الإثنين، إن "هدفنا النهائي هو تنظيم انتخابات عادلة يشارك فيها جميع السوريين"، مضيفاً أن "جميع السوريين، بمن فيهم اللاجئون، سيشاركون في الانتخابات المرتقبة بسورية". وأعلن أن "إعادة إعمار سورية ستكلف نحو 250 مليار دولار على الأقل". وأشار إلى مشاركة نحو 200 ممثل عن المجتمع المدني في مفاوضات جنيف. وسيشارك دي ميستورا، اليوم، في اجتماع للدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي سيعقد في جنيف بمبادرة من فرنسا.
وفي الوقت الذي تمسك فيه رئيس الحكومة التركية بن علي يلدريم برحيل رئيس النظام بشار الأسد، مؤكداً أن السلام الدائم في سورية "احتمال غير واقعي" في ظل بقاء الأسد في السلطة، كشف مصدر دبلوماسي لوكالات إعلام روسية أن "المؤتمر السوري للحوار الوطني" في سوتشي تأجل حتى فبراير/ شباط المقبل. وقال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إن المؤتمر يراد منه أن يساهم في الإصلاح الدستوري بسورية والتحضير للانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
ومن المنتظر أن تنطلق اليوم الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف التي ترعاها الأمم المتحدة في مدينة جنيف السويسرية، في ظل مؤشرات على أن الجولة الجديدة ستكون كسابقاتها من جولات عقدت على مدى أعوام، ونجح النظام وحلفاؤه في تحويلها إلى لقاءات إعلامية لا أكثر، وذريعة لتعديل موازين القوة على الأرض، وحشر المعارضة في زوايا ضيقة عسكرياً وسياسياً. وبدأ النظام أولى محاولات إفشال مسار جنيف برمته من خلال إرجاء سفر وفده إلى جنيف، تحت مزاعم "الاستياء" من مخرجات مؤتمر المعارضة الموسع في العاصمة السعودية، الذي انتهى الجمعة الماضي. ونقلت صحيفة "الوطن"، الموالية للنظام، عن مصادر دبلوماسية إن دمشق "مستاءة بعد قراءة مجهرية لبيان الرياض 2، والتفسير الملتبس لقرار مجلس الأمن 2254 تجاه تمثيل المعارضات كافة". كما نقلت الصحيفة عن المصدر نفسه "أن دمشق ترى في بيان الرياض 2 عودة إلى المربع الأول في المفاوضات، خصوصاً تجاه فرض شروط مسبقة، مثل عبارة سقف المفاوضات رحيل الرئيس بشار الأسد عند بدء المرحلة الانتقالية". واعتبر النظام أن بيان الرياض تضمن ما يسميه بـ"الألفاظ النابية"، خصوصاً تلك المتعلقة بمصير الأسد، إذ أكد البيان أن المرحلة الانتقالية تبدأ مع رحيل بشار الأسد و "زمرته" عن السلطة. كما يرى النظام أن بيان الرياض 2 يتضمن "شروطاً مبطنة"، معتبراً ما جاء في البيان "تجاوزاً للقرار 2254 ولا يليق بمسار سياسي من شأنه التوصل إلى حل لحرب مستمرة منذ 7 سنوات، تم خلالها القضاء على آلاف الإرهابيين"، وفق المصدر الذي تناسى أن قوات النظام ومليشيات إيرانية، بدعم من الطيران الروسي، قتلت وشردت ملايين السوريين.
من جانبها، شكلت المعارضة السورية وفدها التفاوضي الجديد مع ممثلين أقل عن الفصائل المسلحة، ومندوبين أكثر عن المستقلين ومنصتي موسكو والقاهرة، مبدية رغبة في التفاوض المباشر مع وفد النظام وفق القرارات الدولية التي تنص صراحة على تحقيق انتقال سياسي في البلاد، لا يزال النظام يحاول التهرب منه تحت ذرائع مختلفة. وأفادت مصادر مطلعة، لـ"العربي الجديد"، أن وفد هيئة التفاوض إلى جنيف "مؤلف من 23 عضواً من مكونات الهيئة العليا للمفاوضات، بما فيها منصتا موسكو والقاهرة، يترأسهم نصر الحريري، ويضم أيضاً كلاً من خالد محاميد، وجمال سليمان، وهنادي أبو عرب، وهادي البحرة، وعبد الأحد اسطيفو، وحواس خليل، وصفوان عكاش، وأليس مفرج، وأحمد العسراوي، وفراس الخالدي، ومنير درويش، وقاسم الخطيب، وعمار النحاس، ومحمد الدهني، وأحمد العودة، وياسر عبد الرحيم، وبسمة قضماني، وطارق الكردي، ومهند ديقان، وسامي بيتنجانة، ويوسف سلمان، ويحيى العريضي وهو الناطق الرسمي للوفد". وكانت جولة جنيف السابعة، منتصف يوليو/تموز الماضي، قد انتهت من دون تحقيق نتائج واضحة في التفاوض حول سلال المبعوث الأممي إلى سورية، ستيفان دي ميستورا الأربع، بسبب رفض وفد النظام الدخول في مناقشة الانتقال السياسي الذي تعتبره المعارضة السورية "جوهر العملية التفاوضية".
وحاول الروس والإيرانيون، حلفاء النظام، حرف الاهتمام السياسي والإعلامي عن مسار جنيف، من خلال عدم تحقيق أي تقدم في المفاوضات أولاً، وتركيز الاهتمام على مسار أستانة ثانياً لتمرير رؤيتي موسكو وطهران بما يتعلق بالحل النهائي، في ظل تراخٍ أميركي واضح، إذ لم تتضح بعد الرؤية الأميركية للحل في سورية، في ظل مؤشرات على إطلاق يد الروس في الملف السوري. ولم يتضح بعد جدول أعمال هذه الجولة، ولكن نائب المبعوث الأممي إلى سورية، رمزي رمزي، أكد الالتزام بالتعامل مع "السلال التفاوضية الأربع" (الحكم، والدستور، والانتخابات، ومحاربة الإرهاب) خلال الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف، مع التركيز على سلتي الانتخابات والدستور، وفق المسؤول الأممي.
من جانبها، تبدو المعارضة متفائلة بعودة الزخم السياسي والإعلامي إلى مسار جنيف مرة أخرى، خصوصاً أنها سدت ذريعة الوفد الواحد التي كان دي ميستورا يتخذ منها شماعة يعلق عليها فشله في تحقيق تقدم في المفاوضات، متماهياً في ذلك إلى حد بعيد مع خطة روسية تستهدف خلط الأوراق، وتسعى وراء تشتيت تمثيل المعارضة من خلال منصة موسكو، التي ترى المعارضة أنها أقرب إلى النظام، وتنفذ أجندة روسية، لكنها اضطرت لضمها إلى الهيئة العليا للمفاوضات، وتالياً إلى الوفد المفاوض، تحت ضغوط إقليمية ودولية. وربما يدفع فشل المساعي الروسية في عقد مؤتمر "الحوار الوطني السوري" حتى اللحظة في سوتشي إلى "عودة الروح" إلى مسار جنيف، الذي لم يحقق عبر جولات متعددة أي تقدم يذكر على صعيد التأسيس لحل سياسي في سورية، إذ تبدو الأمم المتحدة مشلولة أمام مأساة لا تزال تتصاعد.
وأبدى نائب رئيس الهيئة العليا للمفاوضات، جمال سليمان، تفاؤلاً حذراً في الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف. وقال، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إنه "لا يحق للسوريين، بعد سبع سنوات، إلا التفاؤل الحذر كحد أقصى". وتذهب المعارضة السورية إلى جولة جديدة من المفاوضات متسلحة بقرارات دولية، تصر المعارضة على التمسك بها وتطبيقها، رغم أن هذه القرارات لا تحقق الحد الأدنى من مطالب الشارع المعارض السوري الذي يرى أن رحيل الأسد وأركان حكمه من السلطة من دون محاكمة أمام محاكم دولية، جراء ما ارتكبوه من جرائم طيلة سنوات، يعد بحد ذاته تنازلاً سياسياً كبيراً. وأشار الناطق الجديد باسم الهيئة العليا للمفاوضات والوفد المفاوض، يحيى العريضي، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إلى أن المعارضة تتجه هذه المرة إلى مفاوضات بوفد واحد وموحد، مقراً، في الوقت ذاته، بوجود تباين بالأفكار داخل الوفد، مضيفاً أنها "تباينات مقدور عليها". وأكد أن المعارضة تركز خلال الجولة المقبلة على القرارات الدولية، خصوصاً بيان "جنيف 1" والقرار 2254، مضيفاً "يجب ألا يكون تطبيق القرارات الصادرة عن الشرعية الدولية انتقائياً، أو كما تشتهي السياسة، والأغراض المخبأة". وأعرب عن اعتقاده بأن الزخم الإعلامي والسياسي سيعود إلى مفاوضات جنيف "في حال ابتعاد الروس عنه، كي تكون هذه المفاوضات في جنيف مساراً سياسياً واضحاً يأخذ أبعاده للتأسيس لعملية انتقال سياسي في سورية"، وفق العريضي.