بعد أيام قليلة من إعلان منظمي "بانوراما الفيلم الأوروبي"، أي المنتجة ماريان خوري وشركة مصر العالمية وسينما زاوية، عن عرض فيلم "حادثة النيل هيلتون/ اللي حصل في الهيلتون"، للمخرج المصري السويدي طارق صالح ضمن فاعليات الحدث السينمائي الذي سيقام في القاهرة بين 8-18 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، عادت خوري في المؤتمر الصحافي للحدث وقالت إن "الفيلم لن يعرض"، وأعفت نفسها من إبداء أسباب لن تستطيع قولها. ولكن مصادر خاصة أبلغت "العربي الجديد" أن جهات سيادية ورقابية هي التي قررت وقف عرض الفيلم، بحجة أنه "يسيء لسمعة مصر"، وليس من المحبذ عرضه نظراً لتناوله وقائع فساد داخل جهاز الشرطة المصري في فترة ما قبل/أثناء ثورة 25 يناير 2011.
قصة الفيلم
قصة الفيلم، الذي شاركت في إنتاجه 3 دول هي السويد والدنمارك وألمانيا، مستلهمة من حادثة مقتل المطربة سوزان تميم، وتورط رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى في الحادثة، ولكن صالح يغير مكان وزمان الحدث، ليدور الفيلم قبل أيام قليلة من الثورة المصرية بدلاً من 2008، وفي فندق "النيل هيلتون" الذي يقع في قلب القاهرة بدلاً من دبي التي جرت فيها الجريمة الحقيقية، وذلك بهدف أن يتجاوز فيلمه قصة "تحقيق وقتل" إلى قضية أكبر هي جهاز الشرطة المصري، والانتهاكات التي تدور فيه، من خلال الضابط الفاسد "نور الدين" بطل الفيلم، الذي يبدأ التحقيق بهدف تحقيق مكاسب شخصية وابتزاز الأشخاص المتورطين، ولكن المضي قدماً يحعله يكتشف عالماً مرعباً لم يكن يعرف عنه، يقوم على التداخل بين المال (حيث رجل الأعمال المتورط في مقتل المطربة داخل الفيلم) والسياسة (لكونه صديقاً مقرباً من نجلي رئيس الجمهورية المصري) وعلاقة ذلك بالإخفاء المتعمد لتفاصيل الجريمة والتواطؤ على محوها.
صوّر الفيلم في المغرب، بعد رفض الحكومة والرقابة المصرية إعطاءه تصريحاً للتصوير في القاهرة، قبل أن يعرض مطلع العام الحالي في مهرجان "سندانس" السينمائي، ويفوز بجائزة لجنة التحكيم الكبرى. ورغم عيوبه التي يمكن لشخصٍ مصري ملاحظتها، في دقة بعض التفاصيل والتواريخ والأماكن ولغة الحوار المستخدمة واللهجة الثقيلة للممثل اللبناني فارس فارس بطل الفيلم، إلا أن أهميته الحقيقية تنبع من محاولة التعامل القريب والجريء والجاد مع فساد الشرطة في مصر، مستفيداً من أن مخرجه يعيش في أوروبا، وإنتاج الفيلم بالكامل يأتي من هناك، ليتجاوز بعض التابوهات غير المتاح لفيلم مصري تجاوزها، وهذا تحديداً السبب الذي أدى إلى منعه، ودفع بعض محامي السلطة في مصر (وأشهرهم المحامي سمير صبري) لتقديم بلاغ للنائب العام بهدف وقف عرض الفيلم تحت اليافطة الشهيرة المسماة "الإساءة لسمعة مصر"، وخلق التشويش المتعمد بين ما تمثله "مصر" كدولة وما تمثله مؤسساتها مثل الشرطة والداخلية، ليصبح تناول الفيلم لفساد الجهاز تشويهاً –بحسب البلاغ- للدولة ذاتها.
الحكومة والتعبير
ولكن المهم في قضية منع الفيلم هي وضعه ضمن الصورة الأوسع في تعامل الدولة المصرية خلال الوقت الحالي مع "التعبير" بكل أشكاله، سواء من خلال الرأي أو الفن أو حتى تناقل الأخبار، فمنع "حادثة النيل هيلتون" لا يبتعد أبداً عن سياق حجب مئات المواقع الإخبارية والسياسية خلال الشهور القليلة الماضية، والتي يرى النظام المصري أنها "معارضة" وتمثل خطراً على الأمن العام، ولا يبتعد عن الضجة التي جرت عند عرض حلقة من مسلسل "لا تطفئ الشمس" في رمضان الماضي يظهر فيها شعار ضد الرئيس عبد الفتاح السيسي على أحد الجدران، فتم حذف الحلقة ومهاجمة القائمين عليها وإعادتها منقحة بعد محو الجملة من خلفية المشهد، وكذلك لا يختلف منع عرض "حادثة النيل هيلتون" كثيراً مع رفض التصريح الرقابي لفيلم "آخر أيام المدينة" للمخرج تامر السعيد، الذي لم يعرض حتى الآن في مصر رغم جولاته العالمية منذ قرابة العامين، وحصوله على جائزة رفيعة من مهرجان "برلين" السينمائي، ولكنه مُنِعَ في مهرجان القاهرة السينمائي قبل عام، ثم مهرجان شرم الشيخ قبل عدة أشهر، مع عدم إعطائه تصريحاً للعرض العام حتى اللحظة.
سيتنيات جديدة؟
تلك الحوادث المتفرقة والمختلفة تتعلق في جوهرها بسياقٍ واحد، تحاول فيه الدولة والسلطات المصرية إعادة الزمن إلى ستينيات القرن الماضي، حيث كان "الحجب" و"المنع" وسيلتي ردع لوصول الأفكار إلى الناس، دون إدراك أن العالم أصبح مفتوحاً أكثر في 2017، ومنع الأخبار أو الثقافة أو الفن لن يكون عائقاً عن وصولها إلى الجمهور في وجود الإنترنت ووسائل العرض المختلفة، بل إنه يكون أحياناً عامل جذب ودافعاً أكبر لمحاولة الإطلاع، فربما لن يعرض "حادثة النيل هيلتون" ضمن "بانوراما الفيلم الأوروبي"، والأغلب أنه لن يصرح أبداً بطرحه في دور السينما في مصر، ولكنه بعد وقت قريب سيكون متاحاً للمشاهدة والتحميل على شبكة الإنترنت، وتحته صفة أنه "ممنوع"، وسيصل للناس بالتأكيد، لأن الزمن الحالي –ورغم كل محاولات السلطة وعنفها- هو زمن غير مرحب بالمنع والحجب، وتكون السلطة فيه مُقيدة عن تنفيذ مخططاتها الخانقة، لأن الفضاء الإلكتروني –ببساطة- أكثر وسعاً.