تزداد قيمة حلقات الذكر الجماعي في شهر رمضان، حيث يراها الصوفية من الوسائل التي ترفع الهمة وترغّب الفرد في أداء واجباته الدينية. وتزيد المتعة الروحية لأن الذين يقومون بالذكر قضوا نهارهم صائمين، وقد أقبل الليل عليهم ليضيفوا ثواباً آخر عبر ما يقومون به من ذكر جماعي، حيث يتواجد الذاكرون ويهتزون ما بين قائم وقاعد، وهم يقولون: الله حي، أو: حي حي، في إيقاع منضبط يخرج من الجميع كأنه صوت رجل واحد. يتخلل ذلك إنشاد موشحات وابتهالات.
تقام حلقات الذكر أكثر ما يكون في أرياف مصر بالوجه البحري والصعيد، غير أنها قلّت كثيراً مقارنة بما كانت عليه في القرن الماضي، لكنها لا تزال حاضرة بقوة في بعض الأماكن مثل مساجد السيدة زينب والحسين بالقاهرة، أبو العباس بالإسكندرية، والسيد البدوي بطنطا، والساحة الرضوانية والساحة الجيلانية وساحة الشيخ الطيب بالأقصر، وغيرها من مساجد الطرق الصوفية؛ إذ توجد في مصر حوالي 80 طريقة صوفية تنتشر في المدن والقرى والنجوع.
وإذ تهتم الطرق الصوفية طوال العام بمجالس الذكر، حيث يتوجه إليها المريدون، عادةً، بعد صلاة العشاء كلّ يوم خميس، فإنها في رمضان تحتل مساحة أكبر، فتقام حلقات الذكر في مناسبات رمضانية مختلفة مثل استقبال رمضان، وذكرى غزوة بدر في العاشر من رمضان.
قبلي وبحري
العديد من الأدباء أرخ لتلك المجالس؛ كالدكتور طه حسين الذي وصفها في ذكرياته "الأيام"، كيف كان حالها في الصعيد، حيث قريته "الكيلو" بمحافظة المنيا، ومعظم الناس يتبركون بالمشايخ وطقوسهم الصوفية؛ فيقول عن المتحلقين في تلك المجالس بأنهم "يذكرون الله أولاً قاعدين ساكتين، ثم تتحرك رؤوسهم وترتفع أصواتهم قليلاً، ثم تتحرك أنصافهم وترتفع أصواتهم قليلاً، ثم تنبثُّ في أجسادهم رِعدة، فإذا هم جميعاً وقوف، وقد دفعوا في الهواء كأنما حركهم لولب".
أما في الوجه البحري فإن بعض الطقوس تختلف شيئاً ما. وفقاً لوصف الدكتور رجب البيومي في ذكرياته عن رمضان؛ فإن الليلة تبدأ بقراءة أجزاء من القرآن، فيأتي صندوق من بيت الشيخ يضم ثلاثين جزءاً، هي جميع أجزاء القرآن، ثم توزع الأجزاء على الجالسين فيقرأ كل إنسان ما بيده من كتاب، حتى إذا فرغ كل واحد من قراءته كان القرآن قد قرئ جميعه في تلك الليلة، ويسمونها (الختمة)، ثم تجمع الأجزاء لتوضع في الصندوق كما كانت.
بعد ذلك يأتي قارئ حسن الصوت، فيفتتح المجلس بقراءة ما تيسر من آيات الكتاب، وفق اختيار دقيق لآيات الترغيب والترهيب مما ينقل السامعين إلى العالم الروحي، فإذا انتهى من قراءته بدأ الحضور بالذكر الصامت، ثم بالذكر المرتفع الصوت، ثم الذكر قياماً والترنح يميناً ويساراً.
وفي نهاية الليلة توزع "النفحة"، وهي قطع صغيرة من الحلوى يتبرع بإحضارها أحد الذاكرين طيلة شهر رمضان، وتوزيعها على الحضور تذكيراً بطعام أهل الجنة.
حضرة ابن الفارض
كان المستشرق المجري عبد الكريم جرمانوس (1884 - 1979) قد صحب الدكتور البيومي إلى زيارة مسجد أمير العاشقين "ابن الفارض" وضريحه، لكن ما إن وصلا إليه حتى وجداه مظلماً مقفراً موحشاً لا زائر فيه. فقال المستشرق: لو لم يكن ابن الفارض صوفياً كبيراً لكان شاعراً قديراً؛ فكيف يُهمل مزار نابغة مثله؟! وكان ذلك في أواخر شهر شعبان.
يحكي البيومي أنه تألم من أثر تلك الزيارة بشدة، فاتجه في صبيحة الغد إلى الجامع الأزهر، والتقى بصديقه الصوفي الكبير الشيخ صالح الجعفري، وقص عليه ما كان من زيارته لعمر بن الفارض. فقال له الشيخ الجعفري: عليك أن تحضر في اليوم الأول من رمضان إلى مسجد ابن الفارض قبل الغروب بساعة لترى احتفالنا به.
في غرة رمضان؛ كان مسجد ابن الفارض قد تزين بأناس كثيرين من مريدي الشيخ، فيهم من يضع القدور على النار، وبجوارهم أكداس الخبز الطري، وقد جاءوا بالمصابيح الغازية ليكونوا في مأمن إذا انقطع التيار الكهربائي، كما أن هناك قدوراً تمتلئ بالفول المدمس الذي أمر الشيخ أن يكون إفطار مريديه منه في أول يوم، وإلى جوار تلك القدور أقفاص من الفاكهة لتكون طعاماً للسحور. وقد أقبل الشيخ في لفيف من مريديه واحتضن الضريح، وهو ينشد قول الشاعر:
وأقرب ما يكون الشوق يوماً
إذا دنت الخيام من الخيام
وقد اهتاج الحاضرون هياج الطرب، وغمرتهم روح من التواجد، فانتصب الناس تلقائياً صفوفاً خلف صفوف، والشيخ في الوسط يتواجد ويترنح، ثم حضر جميع من كانوا خارج المسجد ليشاركوا في الابتهال، ويستمعوا من شعر ابن الفارض الذي ينشده الشيخ.
أفطر الصائمون وصلوا مغربهم وعشاهم والتراويح خلف الشيخ صالح، الذي أخذ يقص حكايات مؤثرة عن سلطان العاشقين، ثم بدأ ينشد من شعره بصوتٍ شجيّ، يقول البيومي: "أخذته الصبوة، فانتصب واقفاً، وانتصب من خلفه سامعوه، وهم يملؤون ساحة المسجد، وانتظمت حلقة ذكر تلقائية ما شهدت مثلها إلا في القليل".
وقد جلس الشيخ ليستريح، ودارت كؤوس القرفة فشرب من شرب، حتى إذا تمت الراحة على نحو مستطاب، نهض الشيخ للذكر مرة ثالثة، وما كادت الأرواح تتجاوب حتى سبح الشيخ في جو ابن الفارض فأنشد قوله:
أبرقٌ بدا من جانبِ الغور لامعُ
أم ارتفعت عن وجه ليلى البراقعُ
وقد استمرت الليلة بين شعرٍ وذكر وتسبيح وإنشاد حتى جاء وقت السحور، فكانت ليلة نادرة في "حضرة" ابن الفارض!
إقرأ أيضاً: مسجد ابن عربي: هنا يرقد شيخ المتصوّفة