تُقدر قيادات عسكرية عراقية عُمر بعض المعسكرات التابعة لتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في صحراء الأنبار، بأكثر من 8 سنوات، وتمتد من الحدود السورية، شمال غرب الأنبار، مروراً بالحدود الأردنية وحتى السعودية، جنوب غرب المحافظة، وعلى مساحة تقدر بأكثر من 120 ألف كيلومتر مربع. وتربط داخلياً محافظات نينوى وصلاح الدين وكربلاء والنجف، مع المحافظة الأم الحاضنة لها، وهي الأنبار. وطالما شكلت هذه الصحراء البؤرة المناسبة لتكاثر وتدريب وإقامة أفراد التنظيمات الجهادية في العراق بدءاً من تنظيم "القاعدة" وصولاً إلى "داعش".
ولا يعود تاريخ ملف الصحراء الأمني إلى حقبة ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق. وتؤكد الوثائق التاريخية العراقية أن تلك المنطقة شكلت عامل قلق وإزعاج كبير للعثمانيين ومن بعدهم البريطانيين في القرنين الماضيين، توالت بعدها على العراق فترة الحكم الملكي ثم الجمهوري واستمرت المشكلة ذاتها والتي تختصر بعبارة "استحالة السيطرة على تلك الصحراء". فكل من يرغب بالتواري عن الأنظار من الحكومات، يمكنه أن يتوجه للصحراء ويقيم هناك. وفي فترة حكم الرئيس السابق، صدام حسين، تحولت إلى مكان خصب لمهربي المواد الممنوعة والأغنام إلى كل من الأردن وسورية. وتكرر الحال مع القوات الأميركية التي اضطرت أخيراً، عام 2007، إلى الانسحاب البري منها بعد تكبدها خسائر جسمية على يد تنظيم "القاعدة"، مكتفيةً بالغطاء الجوي المروحي والحربي لعملياتها العسكرية هناك.
ويشرح المسؤول الحكومي أن "داعش ينتشر حالياً في مناطق داخل الصحراء من الصعب اكتشافها حتى لو وصلت إليها قواتنا، فلديه أنفاق وكهوف طبيعية واصطناعية لا يعلم بها أحد، وحتى البدو الرحل تركوا تلك المناطق منذ سنين، فلا دليل ولا مصادر استخباراتية لدينا فيها"، على حد تأكيده. ويضيف أنه "في حال أردنا السيطرة عليها، فإننا سنحتاج لقوات لا تقل عن 100 ألف جندي تدخل مرة واحدة إليها، وهذا مستحيل"، بحسب قوله.
وأعلنت وزارة الدفاع العراقية، في يناير/كانون الثاني الماضي، العثور على ما وصفته بمعسكر تدريب كبير لتنظيم "داعش" في منطقة الصكرة قرب قضاء حديثة، يستخدمه التنظيم لتدريب وإيواء عناصره، وفق الوزارة.
وصحراء الأنبار تشكل امتداداً لهضبة الجزيرة العربية مع السعودية التي تتصل بها من خلال مدينة جديد عرعر والنخيب العراقية التي تقابلها عرعر السعودية، وفيها المنفذ البري الوحيد بين البلدين ولا يفتح سوى بأوقات الحج ويغلق بعد ذلك. وما يميز هذه الصحراء كثرة التلال والسلاسل الجبلية والوديان العميقة فيها، فضلاً عن وجود أراض شديدة الانحدار وعالية الكثبان الرملية. وطقسها حار في الصيف، تصل درجة الحرارة فيها لأكثر من 55 درجة مئوية في بعض الأشهر، والشتاء بارد وجاف وتنخفض فيه الحرارة إلى ما دون الصفر أحياناً، وتضم عشرات الوديان، أبرزها وادي حوران والمحمدي وجباب والمانعي والأبيض ووادي الهلاك ووادي الجن، بعضها يتصل مع دول الجوار كسورية والسعودية. ويصل ارتفاع بعض هضابها إلى نحو 800 متر فوق مستوى سطح البحر كما في الهضبة الغربية قرب الحدود مع الأردن عند جبل عنزة.
إلا أنها تحوي على ما يوصف بكنوز الجيل العراقي المقبل، إذ قدرت تقارير وزارة التخطيط والنفط العراقيتين عام 2012، وجود نحو 53 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، أبرزها حقل عكاس، إضافة إلى نحو 300 مليار برميل نفط، فضلاً عن معادن مهمة، مثل الفوسفات باحتياطي معلن يبلغ 10 مليارات طن، والحديد بواقع 5 ملايين طن، بالإضافة إلى الذهب واليورانيوم والكبريت والفضة.
وكان رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، عطّل، لأسباب سياسية، مشاريع استثمار الصحراء. ويشار إلى أن البدء باستثمار حقول الغاز والنفط فيها ودخولها ضمن خارطة موارد العراق الأساسية يجعل من هذه المحافظة ضمن مشروع "البترودولار" الذي يكفل للمحافظات المنتجة للنفط والغاز، وفقاً للدستور، الحصول على 5 دولارات عن كل برميل يصدر من حقول تقع ضمن نطاقها الجغرافي. كما أن استثمار الحقول في تلك الصحراء يجعل المحافظة داخل مجلس الطاقة العراقي الذي يرسم سياسات البلاد الاقتصادية. وهما سببان كافيان جعلا المالكي يعطل عجلة الاستثمار في الصحراء، على الرغم من تقديم شركات نفط أجنبية معروفة عروضاً للاستثمار فيها.
ويقول المسؤولون العراقيون في بغداد إن المالكي هو المسؤول الأول عن تكاثر معسكرات "داعش" وتناميها عبر سحبه قوات الجيش العراقي من الصحراء وتركها منطقة تنقّل وإقامة مريحة لعناصر "داعش". ويضيف المسؤولون أن غاية المالكي تمثلت في استخدام هذا الوضع كورقة ابتزاز ضد الأردن والسعودية على وجه الخصوص، وهو ما دفع الرياض عام 2010 إلى بناء جدار على طول حدودها مع العراق خوفاً من تسلل العناصر المتطرفة إلى أراضيها. واتخذ الأردن تدابير أمنية من خلال نشر قوات عسكرية بشكل دائم على طول حدوده مع الأنبار وتحديداً قضاء الرطبة.
ويتابع المسؤولون العراقيون أن المالكي استخدم وضع الصحراء كورقة سياسية في الداخل العراقي، من خلال الضغط على خصومه من القوى السنية، كزعماء قبائل ورجال دين وقادة الصحوات والسياسيين. وكان يتم فتح بعض منافذ صحراء الأنبار بشكل يتيح لمقاتلي "داعش" تنفيذ عمليات إرهابية في الأنبار ونينوى وصلاح الدين، وهي كانت تستهدف عادةً زعماء قبائل ورجال دين وسياسيين وقادة صحوات لم يكونوا يتفقون مع المالكي طيلة سنوات حكمه للبلاد. وهذا ما حصل في عملية اغتيال كبير مشايخ عشيرة عنزة، لورنس متعب الهذال، قبل عامين، بهجوم انتحاري على منزله في النخيب، جنوب غرب الأنبار، وزعيم الصحوات عبد الستار أبوريشة، عام 2007.
وأطلقت وزارة الدفاع العراقية نهاية العام الماضي عملية عسكرية واسعة في مناطق أعالي الفرات التي تمثل واحة الفرات في بطن هذه الصحراء المعقدة. وتنتشر على طول مجرى الفرات بلدات ومدن عدة يسيطر على أغلبها تنظيم "داعش". إلا أن تلك العملية تعثرت بسبب الخسائر الكبيرة للقوات المهاجمة والتي عزتها قيادات بالجيش العراقي في مؤتمرات وبيانات صحافية إلى نقص الغطاء الجوي بسبب تركيز الجهود على معركة الموصل. ويقول أحد زعماء قبائل شمر في الأنبار، الشيخ محمد سعود الشمري، وهو من الشخصيات البارزة في قتال "داعش"، إن "المالكي أول من حول ملف الصحراء من سياسي إلى أمني، وحالياً ندفع ثمن ذلك دماً". ويضيف أن "داعش سيبقى بالصحراء ضعف الوقت الذي أمضاه في المدن العراقية الشمالية والغربية". ويخلص في حديث مع "العربي الجديد" عبر الهاتف، إلى أن "الصحراء ستبقى مصدر تهديد دائم، وعبارات داعش على جدران مدينة هيت بعد انسحاب عناصره منها كانت واضحة للغاية بقولهم: المسافة بيننا وبينكم 30 ليتر بنزين".