هذا الكتاب عن الوحوش، أمهات الفن والعجائب، تلك التي كتب عنها غويا وهو يصف أعماله مبتدئاً بعبارة "نوم المنطق يخلق الوحوش"، ومكملاً "إن الفنتازيا التي هجرها المنطق تخلق وحوشاً مستحيلة، وتتحد معها ليكونا أماً للفنون وعجائبها".
"خيال طوبولوجي" (منشورات هارفارد)، جديد الناقد الأميركي أنغوس فلتشر (1949)، والذي يحاول فهم وحوش الخيال الأدبي والفني فهماً معاصراً وفنتازياً أيضاً، وإن كان قد استخدم الرياضيات في محاولته الجنونية هذه، حاذياً حذو شعرائه وفنانيه وعلمائه، فيجمع بين ويتمان وأويلر، ويستفيد من نظريات الأخير في الهندسة والتكامل والتعبير والتحليل الرياضي في فصل من الكتاب عنونه بـ "أويلر يكتشف الحافة الأولى".
وكما هو معروف، فإن لفلتشر عدة كتب ذات مزاج قرائي مختلف، يجمع فيها صاحب "ديمقراطيات هزلية" (2016) و"الزمن والمساحة والحركة في عصر شكسبير" (2009)، بين السوسيولوجيا والفلسفة والسياسة والعلوم وتاريخ الأدب بما هو معاصر فيه.
وها هو "خيال طوبولوجي"، أحدث كتب فلتشر قد صدر مؤخراً عن منشورات "هارفارد"، وفيه يلجأ هذه المرة إلى الرياضيات لفهم مساحة المخيلة ورسم خريطة لها. ويستخدم الثراء الرياضياتي للطوبولوجيا وصلاتها للتأثير على فهم القارئ للقوة الأدبية للخيال، وقدرته على الاستعارة. ويجمع الأفكار من الفنون والعلوم ليقدم مقترحاً للغوص في واستكشاف شرطنا المعاصر.
ومثلما فعل في كتابه المتفائل "نظرية جديدة في الشعر الأميركي: الديمقراطية، البيئة ومستقبل الخيال" (2007)، يعود فلتشر مرة أخرى إلى قصائد الشاعر الأميركي المفضل لديه والت ويتمان، وبالتأكيد سيعود إلى "هاملت"، أحد النصوص المسرحية التي يظل يطرقها.
كما ينتقل فلتشر بالزمن عائداً إلى صاحب "الجمهورية"، فيقرأ قليلاً في مخيلة أفلاطون التي اقترحت إقصاء أصحاب المخيلة "الشعراء"، وفي "فيدروس" لن يتأخر الفيلسوف في أن يربط بين الفنتازيا والخيال وبين "الجنون الإلهي".
يعرج الكاتب كذلك على فردريك شيلر وألكسندر بوغمارتين وجيرترود شتاين وأوكلاند ولا ينسى السينما فيتناول ستانلي كوبريك، ويلفت إلى المخيلة بوصفها "قوة العقل"، القادرة على تسخير الفنتازيا وفي الأصل على العقل أن يكون مساحة اللعب الحرة لها.
من هنا، ينطلق فلتشر للحديث عن الدور التنويري الذي لعبه الخيال في النهضة، من حيث المخيلة تفترض، تتصور، تخمن، تحلم أحلام اليقظة، أو ببساطة تحلم، تهلوس، تتنبأ، تستوحي بل وتعقلن أو تمنطق.
هناك تاريخ طويل من محاولات فهم الخيال، ووضع منطق له، نتذكر ما أطلق عليه نورثروب فراي "الخيال المُربى" وهو يتتبع خطوات الفنانين والكتّاب الرومانسيين؛ لن يبتعد فلتشر عن هذه الدرب، فهو أيضاً يضيف كتاباً آخر في أرفف مليئة تحاول دراسة الخيال الإبداعي الطلق، ولكن هذه المرة بمحاولة إخضاعه لمخيلة الهندسة والطوبولوجيا.