يُشكِّك كثيرون في أفضال الترجمة على المعرفة والإبداع، ويبخسون قدْرَها، فيعتبرونَها عالةً على العمل الأصل كونها مجرّد فَرْعٍ، والأصوب أن الفرع لا يمكنه أن يغلبَ أصْلَه، وأن الترجمة ترتهن في وجودها إلى ذلك الأصل، لأنها اشتُقّت منه، ولا يُمكنها أن تقوم مقامَه باعتبارها قراءةً ضمن محتمل قرائيّ كثير، فهي لا تستنفد كلّ العملِ الأصل. ومع ذلك، فقد وُجِدَ من آمن بقدرة الترجمة على مضاهاة أصلها، بل وعلى التفوُّق عليه، ومنهم الجاحظ الذي ذكر ذلك، ولو أنه جاءَ بنقيض كلامه هذا أيضاً.
نعْلَمُ أنّ الترجمة صانتْ أعمالاً أدبيّةً كُبرى وغيرَ أدبيَّة من الضياع أيضاً، ويكفي التذكير بكتاب "كليلة ودمنة"، الذي لا نعرف له أصلاً، لكنّ ترجمتَه من قِبل ابن المقفع احتفظتْ لنا به، فصار "أصلاً جديداً"، والشيءُ نفسُه يُمكن قولُه عن "كتاب معراج محمد" الذي كانَ مُتداولاً بين موريسكِيِّي الأندلس، والذي لا يُعرَف أصلُه العربي، والأمثلة كثيرة، لكن أكثرها إثارة رواية "دون كيخوته" للكاتب الإسباني ميغيل دي ثربانتس (1547 - 1616) الذي يُحتَفى هذه السَّنة، بالمئوية الرابعة لرحيله والذي يقابل يوم 23 نيسان/ أبريل.
ففي ما يخص "كِتابَ الكُتب" - حسب توصيف خوان غويتيسلو- ينبغي التنويه بأنَّ جزءه الأوَّل أصْلُهُ ترجَمةٌ، حسب الحيلة أو التقنية السردية التي لجأ إليها ثربانتس، فقد ادّعى مؤلِّفُه في الجزء الأول من عمله أنه كان لُقْيَةً عَثَرَ عليها لدى فتى كان ينوي بيع أوراقٍ مكتوبة باللغة بالعربية لتاجر حرير في طليطلة، وأنه اكتشفَ فيها حكايةَ دون كيخوته، فكلَّفَ موريسكياً بترجمته له إلى القشتالية (اللهجة التي ستتحوّل إلى اللغة الإسبانية الرسمية)، وأمّا مؤلِّفه الحقيقي -وَفْقَ ثربانتس دوماً- فهو المؤرِّخُ المغربي سيدي حامد الذي اختُلِفَ في نسبه، حيث يقول ثربانتس "بارك الله بسيدي حامد بن علي الذي ترك لنا قصتك مكتوبة، وبارك الله في الفضولي الذي اعتنى بترجمتها من العربية إلى لغتنا القشتالية العامية لتشمل تسليتها جميع الناس".
وأما جزؤه الثاني فهو الآخر لُقيةٌ ثانية، حسب الكاتب الإسباني، إذ يؤكِّدُ الفصْلُ الثاني والخمسون، في نهايته، أن "مؤلف هذه القصة، الذي بحث بفضول وحذر عن الأعمال التي قام بها دون كيخوته في سفرته الثالثة، لم يستطع العثور على أخباره، على الأقل مكتوبة وموثقة (...) لولا أن قُيِّضَ له طبيبٌ عجوز كان عنده صندوق من الرصاص عثر عليه حسب قوله في أساسات منهارة لصومعة قديمة كانوا يجدّدونها، هذا الصندوق الذي وجدوا فيه رقائق مكتوبة بالأحرف القوطية، لكنها كتبت شعراً باللغة الإسبانية، تحتوي على الكثير من مآثره وتخبر عن جمال دولثينيا ديل طوبوسو".
هكذا يكون كتابُ "دون كيخوته" مِنْحَةً للتَّرجْمةِ في أصليْه؛ فأصلُه الأول عربيٌّ بينما الأصل الثاني فهو قوطي، وتتخلَّلهُ أشعارٌ بالقشتالية، وهو ما يُفيد أنه كتابٌ كونيٌّ منذ أن وُجد، أسهمتِ العديدُ من الثقافات بأجناسها ولغاتها في إخراجه إلى الوجود، والتعريف به ومن ثم الاستفادة بما يمنحه من تسلية، كما يرى ثربانتس.
لكن اللافت في في هذا العمل الذي يقال عنه بأنه أول رواية في التاريخ، هو عدم ذكر ثربانتس لاسم المترجم، فإذا كان قد عرّفَ بالمؤلِّف المفترَض، وهو سيدي حامد بن الأيل أو ابن علي، أو ابن الغالي، أو الباذنجاني؛ فإنه قد سكتَ عن المترجم، عِلماً بأن الأخير لم يكنْ في المتن الحكائيّ مكتفِياً بإيصال النص في حياد، بمعنى أن يكونَ شفيفاً وشفّافاً يُمرِّرُ النص إلى الضفة الأخرى دون أن يترك أثراً يدلّ عليه، ليتفادى ما قد يوصَم به من خيانة مثلاً، وإنما لجأ إلى التدخُّل في النص في مواضع عديدة، وخاض أثناءَها في مواضيع متنوِّعة دأب المترجمون على تفاديها.
يمارس المترجم في "دون كيخوته" نشاطاً غير مألوف في أدبيات الترجمة، لأنه ينقلب إلى ناقد، فهو يكتشف مثلاً لما وصل من القصة إلى الفصل الخامس أن الكلام الوارد فيه لا يمكن أن يكون إلا "مزيّفاً، لأن سانشو بانثا يتكلم فيه بأسلوب آخر غير متوقّع من ذكائه المحدود، ويقول أشياء نبيهة من غير الممكن أن يعرفها. لكنه لم يبغ التخلي عن ترجمتها تقيّداً بما توجبه عليه مهنته".
ومنها على سبيل المثال قوله: "وهنا يُصوّر المؤلف كل ما في بيت دون دييغو، مصوّراً بينها ما يحتويه بيت فارس فلاح وثري، لكن المترجم رأى أن يسكت عن مثل هذه التفاصيل، لأنها لا تتوافق والغاية الرئيسة من هذه القصة، التي تكمن قوتها في ذكر الحقيقة، أكثر من الاستطرادات الباردة".
وبهذا نكون أمام تمثُّل طريف لمهمّة المترجم الذي يُفترَضُ أن يتَّسِمَ بالحذر أمام النص، وأن يُسائله وأن يُعلِّقَ عليه، ولعمري هذا من صميم عمل الناقد، وهو مسوّغ آخر يعضد انتساب المترجم إلى الكتابة.