في الرابع من الشهر الجاري، وتحت عنوان "آلام الربيع"، افتتح في "صالة بوشهري للفنون" في الكويت معرض جديد للفنان التشكيلي عبد الوهاب العوضي (الكويت، 1953)، بما تحمله كلمة الجِدّة من معنى، أي إنه تجربة تشكيلية جديدة بالنسبة لهذا الفنان جمعت على مستوى واحد بين اتجاهي التشخيص والتجريد، مع ميل أشدّ إلى اتجاه يدعى الأثر، ويعني رسم ما تتركه الكائنات من آثار عفوية، بما في ذلك ما يتركه الإنسان، على الأرض والجدران وجذوع الأشجار، وكذلك الأطفال.
بعض النقّاد يرى أن هذا الميل يقترب من الميل الصوفي على أساس أن الأثر بقوامه التجريدي بالضرورة انفتاح على اللامحدود وغير الثابت. فهي شكل غير مكتمل، أو ظل حضورٍ كان وغاب، يدلّ بغموضه كما تدلّ الشقوق والصدوع في الجدران على الفراغ أو الخواء الذي هو قرار الوجود في الفلسفات الشرقية قبل أن يحوم حوله علماء الفيزياء الحديثة الذين أوصلهم الرحيل في أعماق جزيئات نواة الذرة إلى "اللاشيء" أو الخواء بتعبير الأبانيشاد الهندية.
هنا لا يعتني الفنان - تحت تأثير رغبة ملامسة اللامتناهي - برسم الإنسان بل برسم ما يتركه من آثار. ولأن الحرف، عربياً كان أو غير عربي، يعدّ في رأي بعض الفنانين جزءاً من جمالية الأثر، نجده حاضراً في لوحات فناني هذا الاتجاه، شأنه في ذلك شأن الخدوش العفوية أو الرسوم التي يتركها الأطفال وهم يلهون.
وهناك وجه آخر لهذا الاتجاه المائل كأنما بنداء غريزي نحو التجريد، أي نحو ما أطلقت عليه كاتبة قلبت لوحة لأدولف راينهارت مرسومة بلون واحد أسود مفهومها للفن والحياة، ما يغري بالشعور لا بالتفكير. الدعوة إلى الشعور لا إلى التفكير هي ما جعل الفنان العوضي في معرض سابق له عنوانُه "الصمت يروي" يترك المشاهد وحيداً أمام تكوينات بلا أسماء.
التجريدي، مع القليل جداً من ملامح تشخيصية، بهذا المعنى يتركنا مع "آثار". إنه محايد يدعونا إلى أن نتحرّر من كل ما هو مسبق، اللهم إلا باستثناء العنوان العام الذي وضعه، "آلام الربيع"، الذي يتجاوز الدلالة التي عمّمها على الناس من أطلقوا اسم الربيع العربي في الصحافة الغربية قبل أن تصل موجتها إلى اللغة العربية، ويذهب في اتجاه فلسفة الأثر فلا يكون أمام المشاهد إلا التدقيق والتعمق والتأمل قدر الاستطاعة. هي دعوة إلى الشعور والمخيلة، إلى التغيّر، وتغيير العالم الذي ننشئه ونشارك فيه.
"آلام الربيع" هو عنوان إذاً، يخرج على صورة الربيع المعتادة في ثقافتنا العربية، بل ويخرج على ما هو معتاد في الثقافات الأخرى، ويتوازي مع هذا خروج آخر على فن التصوير المعتاد في تراث تشخيص المرئيات بواقعية يتوقعها المشاهد في بلادنا ويألفها، بل ويقدسها.
هو عنوان لأعمال تشكيلية ليست معنيّة بملامحنا بقدر ماهي معنية بما نترك أو يترك غيرنا من آثار، ليس على الجدران والجذوع فقط، بل وعلى الشطآن النائية والأمواج الهائجة هذه المرة، بينها وبين المألوف مسافة، ولكنها غير منقطعة عما يعاصرنا من أساليب، تتنقل بين التشخيص الواقعي ومزج التشخيص بالتجريد، والتجريد الخالص. ما هي الغاية إن كان ثمة غاية؟
ربما يتبادر هذا السؤال إلى ذهن كل من يقف أمام هذه الأعمال الفنية، فيبوح به أو يضمره. يمكن الإجابة استناداً إلى موقفين في الشِّعر والرؤى، غير بعيدين عن أسلوب الفنان عبد الوهاب العوضي، سواء كان في اختيار العنوان أو تحويل فضاء اللوحة إلى مزيج من مرئي ومما وراء المرئي على صعيد واحد.
تنقلني عبارة "آلام الربيع"، قبل أن تجتذبني إلى مدارها هذه الوجوه المرتعبة والسفن الحاملة للاجئين هاربين من الموت إلى الحياة، ووجوه الأطفال البريئة المرسومة كأنما بيد طفل، إلى مطلع قصيدة "الأرض الخراب" للشاعر الانكليزي ت. س. إليوت:
"نيسان أقسى الشهور، إذ يولِّد
أزهار الليلك من الأرض الموات، يمزج
الرغبة بالذكرى، ويثير خامل الجذور
بمطر الربيع"
نيسان كما نعرف هو شهر الربيع، ولكن لماذا يقدّمه لنا الشاعر، والرسامُ مستلهماً سطوره ربما من دون أن يعي، بوصفه أقسى شهور العام؟ هذا لأن الأرض الخربة، الأرض التي عصف بها الجفاف واستباحها الغزاة وشرّد أهلها المحتلون، يؤلمها شهر نيسان حين يأتي إليها وأطفالها ونساؤها ورجالها تتقاذفهم العواصف والأمواج والمنافي، ولا يكون من هدف لهؤلاء المشردين سوى حماية أطفالهم، أي مستقبلهم، في أزمنة يُباد فيها بشر وتمحى مدن. وهل هناك أقسى من هذا الشعور في أزمنة مثل هذه؟
هذا التمازج بين نيسان والخراب، بين الأطفال والمنافي، يجد معادله في الرؤى، أي في "محاولة الرسام إبداع صورة فنية شفافة؛ وسيلة الفنانين ليقتربوا من مكان ما، ومن الحقيقة الكامنة وراء مظهره" على حد تعبير الفنان الراحل كمال بُلاّطه.
يقترب الرسام هنا من السفن الحاملة للاجئين، من الشواطئ التي تجتاحها العواصف، من أب يحمي طفله ويبعده عن المرعب والمخيف، مما تبقى من مبان ووجوه وأطراف شاهدة على ما اندثر ودرس، ليصوغ علامات، ويرسم آثارا، وكلمات أو شظايا كلمات.
وتلخيصاً لكل هذا، لهذا المزج بين التجريد والتشخيص، بين المكان وما وراءه، يمكن أن نرفع رؤى الناقد الفني جون بيرجر أفقاً: "يبدأ تشكيل الصورة الفنية باستنطاق مظاهر الأشياء وصياغة علامات (آثار). ولئن كان هناك من يفكر بالمظاهر بوصفها حدوداً، فلا بد من القول له إن الفنانين يبحثون عن رسائل آتية من وراء المرئي، ليس لأنهم أفلاطونيّي النزعة، بل لأنهم يمعنون النظر".