13 نوفمبر 2024
"سمّع صوتك" والعزوف الانتخابي في الجزائر
تجري، في الرابع من مايو/ أيار المقبل، انتخابات تشريعية في الجزائر، يعتبرها النظام مفصليةً، كونها تشكل اختبارا حقيقيا لصورته في مخيلة الشعب في أفق رئاسيات 2019، أو، لنقلها صراحة، في أفق تحضير ما بعد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.
بالنظر إلى سابق عهد النظام مع الانتخابات، أيا كانت (محلية، برلمانية أو رئاسية)، وخصوصا في ظاهرة "العزوف الانتخابي"، فانه سعى، هذه المرة، إلى اتخاذ إجراءاتٍ يعتبرها كفيلةً بتكميم أفواه الممتنعين عن المشاركة. ولهذا أصدر وزير الاتصال، حميد قرين، "ميثاقاً إعلامياً"، ضمّنه كيفية التعامل الإعلامي مع الانتخابات، ومنها، بوجه خاص، كيفية التصدّي لأصوات الامتناع عن التصويت، واحتواء ظاهرة العزوف، بمنهجية إعلامية متكاملة.
انطلقت الحملة الانتخابية، وانطلق معها صوتٌ واحد، صوت الداعين إلى الاقتراع، على الرغم من أن الظروف سيئة على الأصعدة كافة، وحتى الوزير الأول، عبد المالك سلال، وصفها، في تجمعٍ له جنوب العاصمة، بأنها تمنعه من النوم، كونها ظروفٌ غاية في التعقيد، وخصوصا على الصعيد الاقتصادي.
في الحقيقة، ليست مسألة العزوف خيارا انتحاريا، بقدر ما هي خيار يواجه به الممتنعون هذه الظروف، دافعين المجتمع إلى فهم الحالة المزرية للبلاد، وداعين، في الوقت نفسه، إلى تغيير وجهة الخيارات لإنقاذ البلاد، اعتمادا على بدائل متاحة، تحتاج إلى كفاءات أخرى، غير التي وضعت صورها على ملصقات الحملة الانتخابية، والتي انتشر بشأنها قيلٌ وقال عن منهجية اعتلائها رأس تلك القوائم، فضلا عن أن العملية الانتخابية، برمتها، غير ذات فائدة في ظل مؤسساتٍ لا تضطلع بأدوار محورية في تسيير الشأن العام في الجزائر، على غرار البرلمان، مثلا.
أصبحت ظاهرة العزوف عن الذهاب إلى التصويت والاقتراع في الانتخابات مقلقةً أيضا، كونها
تضع مصداقية المؤسسات على المحك، ذلك أن نسبة المشاركين في الاقتراعات كافة، وفق الملاحظين، لم تتعدّ، في السنوات الأخيرة، ربع المقترعين، على أكبر تقدير. والمقلق، في المسألة، أنه لم تنظم نقاشات لدراسة الظاهرة وتشريح مسبباتها، ومن ثم وضع حلول لمشاركة سياسية أكبر في صنع القرار من خلال مؤسسات تمثل الإرادة الشعبية.
وإذا عدنا إلى الظاهرة نفسها، فإن العزوف هو، في حقيقة الأمر، إجابة غير مباشرة على رفض وضع سياسي، على رفض نخبةٍ، على رفض سياساتٍ فرضت على الأصعدة كافة، على رفض وضع البلاد، وعلى رفض خيارات واستراتيجيات نموذج بناء الدولة، بناء المؤسسات وبناء النموذج الاقتصادي، منذ الاستقلال إلى يومنا هذا.
هذه السياسة الثقافية الرافضة ذلك كله، يعبر عنها السياسيون في كتاباتهم، وفي أحاديثهم، بعبارة مشهورة للرئيس السابق، محمد بوضياف، إلى أين تذهب الجزائر؟ ذلك السؤال الذي أطلقه غداة الاستقلال، ومازال صداه يتردّد، في آذان كل الجزائريين، ولم يستطع أحد من النخبة الحالية الإجابة عليه، لأن الوضع كفيل برسم صورةٍ بمؤشراتٍ ألونها حمراء على طول الخط.
وعلى الرغم من أن التحاليل كلها تصل إلى رسم صورةٍ قاتمةٍ لذلك الوضع، واضعة، نصب أعين الحاكمين، صورة للحلول وللقرارات والسياسات، إلا أن بقاء دار لقمان على حالها سبب حقيقي لظاهرة العزوف الانتخابي. ولطالما أكّد المجتمع المدني، في كل مرة، على أن التشريح الحقيقي للوضع يحتاج إلى إجرائية في التفكير، إجرائية في البرمجة والتخطيط للحل، بهدف تجسيده على أرض الواقع، إضافة، في الأخير، إلى استشرافٍ جدّي، يرفع تحدي تحويل تلك الإجرائيات إلى هندسة مكرّسة لبناء جزائر جديدة: "الجمهورية الثانية"، بثوب وبمشروع مجتمعي جديدين، هدفهما الارتقاء بالبلاد في أفق عشر سنوات إلى مكانة القوة الإقليمية في الجوار المغاربي- الساحلي الصحراوي، على أسس اقتصادية، تصنع مستقبلاً آخر للمنطقة برمتها.
بالنتيجة، مسألة "سمّع صوتك" التي ارتأى النظام وسم الحملة الانتخابية بها هي، بحد ذاتها، جزء من الإجابة العكسية على سياساته، حيث أن تسميع الصوت يمكن أن يكون بالتعبير عن الامتعاض من الوضع ورفع الصوت بالحاجة إلى حلولٍ بهندسة جديدة، وبنخبة جديدة أيضا.
يمثّل العزوف، هنا، ردا من المجتمع المدني على التفكير الحالي الذي يواجه الأزمات بعد وقوعها، وليس باليقظة التي تستبق الأوضاع المتأزمة بسياسات جدية. وقد جاءت ملصقات بعض الأحزاب المشاركة برمزية التعبير عن الوضع، حيث يتبيّن من خلال تحليل مضمون الصور (إخفاء صور مترشحات في قوائم أحزاب محافظة)، أو من خلال شعارات حملتها تلك الملصقات، على غرار التي يشارك بها الحزب العتيد، جبهة التحرير، في العاصمة "معا لبناء الجزائر"، وكأن البلد، بعد ستين سنة من الاستقلال، لم يبن بعد، ما يوحي بأن نموذج بناء الدولة قد فشل، كما فشل النموذج الاقتصادي الذي تم اتباعه منذ الاستقلال، اعتمادا على الريع وعلى خطط لم تحرّك نمو الجزائر قيد أنملة، وفق الرأي الذي أبداه الخبير الاقتصادي عبد الرحمان مبتول، في إحدى دراساته، والتي أعلن فيها صراحة "أن الجزائر لم تتحرّك، في الفترة من 1963 (سنة بعد الاستقلال) إلى 2010 قيد أنملة"، وكأن البلد كان في نوم عميق، على الرغم من الأموال المعتبرة التي درّها علينا النفط والغاز في العشريات السابقة.
إذا كان الوضع بهذه الحالة من القتامة، ما هي سبل إقناع الناس بأن التغيير قد يحدث إذا شاركوا بكثافة في الانتخابات التشريعية المقبلة؟ الحقيقة أن الإقناع من النخبة الحاكمة، الممثلة، هنا، من ممثلي السلطة أو من أحزاب الموالاة لم يتجاوز عبارات التذكير بما يمكن أن يحدث من كوارث، إذا لجأ الناخبون إلى العزوف يوم الاقتراع، بل لجأ بعضهم إلى سيل من العبارات النابية لوصف المقاطعين، أو الداعين إلى العزوف، بأنهم ناقصو الوطنية، في إشارة إلى أن التصنيف قد تم بين "الوطنيين" (المشاركين) و"غيرهم"، من دون فتح قنوات التعبير لإيصال صوت الناقمين على الوضع من المعارضين، أو من المحرومين، سواء من الطبقة الوسطى، أو من عموم المواطنين.
إلى أين تذهب الجزائر؟ سؤال يؤرق الجميع في الجزائر. وعلى الرغم من ذلك، فإن بعض
المثقفين، ممن يملكون شجاعة التعبير عن تلك المعارضة للأوضاع من داخل المؤسسة التشريعية، انخرطوا في الاقتراع، بالترشح في قوائم، مستقلة أو لأحزاب معروفة بعدم اصطفافها مع السلطة في كل المواقف، وهو ما دعا إلى التفكير مليا في معنى العزوف الذي يجب أن يفرّق، بالنسبة له كسلوك انتخابي، بين نوعين "السلبي" (الامتناع) أو الإيجابي (بالاقتراع للمعارضين) وبإيصال أصواتٍ ستضمن لفضاء التعبير عن الامتعاض من الأوضاع من الحديث من على منصات البرلمان، خصوصا أن الجلسات تذاع على المباشر في القنوات الرسمية.
"سمّع صوتك...بالعزوف"، هو، في الحقيقة، دعوة أمل إلى العزوف الإيجابي، بالاقتراع لأصوات ستعبر عن رفض هذه السلبية في اتخاذ القرارات في المؤسسة التشريعية، والتي لا تأخذ في الاعتبار المطالب الشعبية، ولا تعود إليها، لإعادة تكييفها مع التحولات المتسارعة والمعقّدة حجم تعقد الحياة العصرية.
"سمّع صوتك...بالعزوف"، موقف ينبع من الثقافة السياسية العكسية التي عرف الجزائريون كيف يخترعون أبجدياتها، لمواجهة الأوضاع منذ الاستقلال. ومن دون هذا العزوف ليس هناك إلا الامتناع والمقاطعة، وهما حقان دستوريان يجب أن يكفلا للجميع.
لكن، وإن منع غير المصطفين مع خط السلطة في تنظيم الحياة السياسية في البلاد من التعبير، فإن مجرد اللجوء إلى كل الخيارات المتاحة في ميدان التعبير عن الرأي في الانتخابات، ومنها العزوف بنوعيه، الإيجابي والسلبي، هو استخدام ذكي للصوت الانتخابي، وهو ما مكّن، مثلا، في أثناء الاقتراع في البرلمان على ميزانية 2017 (عرفت بـ"ميزانية العار"، بسبب الضرائب والاقتطاعات المالية التي فرضت على الجزائريين، فنجمت عنه موجة الغلاء في كل المجالات) من إيصال صوت الجزائريين إلى شبكات التواصل الاجتماعية، وملء صفحات الصحف بالأصوات المندّدة بذلك القانون. وكان المنطلق هو تصويت كتلة من البرلمانيين ضد القانون، بل ولجوئهم إلى التعبير عن ذلك بالاحتشاد، واقفين في بهو البرلمان للتعبير عن ذلك الرفض.
هل العزوف، كما كتب محمد الماغوط، ضربٌ من "خيانة الوطن"، أم أنه، إن استخدم بذكاء، نوع من اللجوء إلى تعبير جديد، يبتعد عن الصمت ويقترب من الإضراب والغضب، لكن في دائرة القانون. إنها الثقافة السياسية الجديدة للعرب في زمن انبعاث طبائع الاستبداد.
بالنظر إلى سابق عهد النظام مع الانتخابات، أيا كانت (محلية، برلمانية أو رئاسية)، وخصوصا في ظاهرة "العزوف الانتخابي"، فانه سعى، هذه المرة، إلى اتخاذ إجراءاتٍ يعتبرها كفيلةً بتكميم أفواه الممتنعين عن المشاركة. ولهذا أصدر وزير الاتصال، حميد قرين، "ميثاقاً إعلامياً"، ضمّنه كيفية التعامل الإعلامي مع الانتخابات، ومنها، بوجه خاص، كيفية التصدّي لأصوات الامتناع عن التصويت، واحتواء ظاهرة العزوف، بمنهجية إعلامية متكاملة.
انطلقت الحملة الانتخابية، وانطلق معها صوتٌ واحد، صوت الداعين إلى الاقتراع، على الرغم من أن الظروف سيئة على الأصعدة كافة، وحتى الوزير الأول، عبد المالك سلال، وصفها، في تجمعٍ له جنوب العاصمة، بأنها تمنعه من النوم، كونها ظروفٌ غاية في التعقيد، وخصوصا على الصعيد الاقتصادي.
في الحقيقة، ليست مسألة العزوف خيارا انتحاريا، بقدر ما هي خيار يواجه به الممتنعون هذه الظروف، دافعين المجتمع إلى فهم الحالة المزرية للبلاد، وداعين، في الوقت نفسه، إلى تغيير وجهة الخيارات لإنقاذ البلاد، اعتمادا على بدائل متاحة، تحتاج إلى كفاءات أخرى، غير التي وضعت صورها على ملصقات الحملة الانتخابية، والتي انتشر بشأنها قيلٌ وقال عن منهجية اعتلائها رأس تلك القوائم، فضلا عن أن العملية الانتخابية، برمتها، غير ذات فائدة في ظل مؤسساتٍ لا تضطلع بأدوار محورية في تسيير الشأن العام في الجزائر، على غرار البرلمان، مثلا.
أصبحت ظاهرة العزوف عن الذهاب إلى التصويت والاقتراع في الانتخابات مقلقةً أيضا، كونها
وإذا عدنا إلى الظاهرة نفسها، فإن العزوف هو، في حقيقة الأمر، إجابة غير مباشرة على رفض وضع سياسي، على رفض نخبةٍ، على رفض سياساتٍ فرضت على الأصعدة كافة، على رفض وضع البلاد، وعلى رفض خيارات واستراتيجيات نموذج بناء الدولة، بناء المؤسسات وبناء النموذج الاقتصادي، منذ الاستقلال إلى يومنا هذا.
هذه السياسة الثقافية الرافضة ذلك كله، يعبر عنها السياسيون في كتاباتهم، وفي أحاديثهم، بعبارة مشهورة للرئيس السابق، محمد بوضياف، إلى أين تذهب الجزائر؟ ذلك السؤال الذي أطلقه غداة الاستقلال، ومازال صداه يتردّد، في آذان كل الجزائريين، ولم يستطع أحد من النخبة الحالية الإجابة عليه، لأن الوضع كفيل برسم صورةٍ بمؤشراتٍ ألونها حمراء على طول الخط.
وعلى الرغم من أن التحاليل كلها تصل إلى رسم صورةٍ قاتمةٍ لذلك الوضع، واضعة، نصب أعين الحاكمين، صورة للحلول وللقرارات والسياسات، إلا أن بقاء دار لقمان على حالها سبب حقيقي لظاهرة العزوف الانتخابي. ولطالما أكّد المجتمع المدني، في كل مرة، على أن التشريح الحقيقي للوضع يحتاج إلى إجرائية في التفكير، إجرائية في البرمجة والتخطيط للحل، بهدف تجسيده على أرض الواقع، إضافة، في الأخير، إلى استشرافٍ جدّي، يرفع تحدي تحويل تلك الإجرائيات إلى هندسة مكرّسة لبناء جزائر جديدة: "الجمهورية الثانية"، بثوب وبمشروع مجتمعي جديدين، هدفهما الارتقاء بالبلاد في أفق عشر سنوات إلى مكانة القوة الإقليمية في الجوار المغاربي- الساحلي الصحراوي، على أسس اقتصادية، تصنع مستقبلاً آخر للمنطقة برمتها.
بالنتيجة، مسألة "سمّع صوتك" التي ارتأى النظام وسم الحملة الانتخابية بها هي، بحد ذاتها، جزء من الإجابة العكسية على سياساته، حيث أن تسميع الصوت يمكن أن يكون بالتعبير عن الامتعاض من الوضع ورفع الصوت بالحاجة إلى حلولٍ بهندسة جديدة، وبنخبة جديدة أيضا.
يمثّل العزوف، هنا، ردا من المجتمع المدني على التفكير الحالي الذي يواجه الأزمات بعد وقوعها، وليس باليقظة التي تستبق الأوضاع المتأزمة بسياسات جدية. وقد جاءت ملصقات بعض الأحزاب المشاركة برمزية التعبير عن الوضع، حيث يتبيّن من خلال تحليل مضمون الصور (إخفاء صور مترشحات في قوائم أحزاب محافظة)، أو من خلال شعارات حملتها تلك الملصقات، على غرار التي يشارك بها الحزب العتيد، جبهة التحرير، في العاصمة "معا لبناء الجزائر"، وكأن البلد، بعد ستين سنة من الاستقلال، لم يبن بعد، ما يوحي بأن نموذج بناء الدولة قد فشل، كما فشل النموذج الاقتصادي الذي تم اتباعه منذ الاستقلال، اعتمادا على الريع وعلى خطط لم تحرّك نمو الجزائر قيد أنملة، وفق الرأي الذي أبداه الخبير الاقتصادي عبد الرحمان مبتول، في إحدى دراساته، والتي أعلن فيها صراحة "أن الجزائر لم تتحرّك، في الفترة من 1963 (سنة بعد الاستقلال) إلى 2010 قيد أنملة"، وكأن البلد كان في نوم عميق، على الرغم من الأموال المعتبرة التي درّها علينا النفط والغاز في العشريات السابقة.
إذا كان الوضع بهذه الحالة من القتامة، ما هي سبل إقناع الناس بأن التغيير قد يحدث إذا شاركوا بكثافة في الانتخابات التشريعية المقبلة؟ الحقيقة أن الإقناع من النخبة الحاكمة، الممثلة، هنا، من ممثلي السلطة أو من أحزاب الموالاة لم يتجاوز عبارات التذكير بما يمكن أن يحدث من كوارث، إذا لجأ الناخبون إلى العزوف يوم الاقتراع، بل لجأ بعضهم إلى سيل من العبارات النابية لوصف المقاطعين، أو الداعين إلى العزوف، بأنهم ناقصو الوطنية، في إشارة إلى أن التصنيف قد تم بين "الوطنيين" (المشاركين) و"غيرهم"، من دون فتح قنوات التعبير لإيصال صوت الناقمين على الوضع من المعارضين، أو من المحرومين، سواء من الطبقة الوسطى، أو من عموم المواطنين.
إلى أين تذهب الجزائر؟ سؤال يؤرق الجميع في الجزائر. وعلى الرغم من ذلك، فإن بعض
"سمّع صوتك...بالعزوف"، هو، في الحقيقة، دعوة أمل إلى العزوف الإيجابي، بالاقتراع لأصوات ستعبر عن رفض هذه السلبية في اتخاذ القرارات في المؤسسة التشريعية، والتي لا تأخذ في الاعتبار المطالب الشعبية، ولا تعود إليها، لإعادة تكييفها مع التحولات المتسارعة والمعقّدة حجم تعقد الحياة العصرية.
"سمّع صوتك...بالعزوف"، موقف ينبع من الثقافة السياسية العكسية التي عرف الجزائريون كيف يخترعون أبجدياتها، لمواجهة الأوضاع منذ الاستقلال. ومن دون هذا العزوف ليس هناك إلا الامتناع والمقاطعة، وهما حقان دستوريان يجب أن يكفلا للجميع.
لكن، وإن منع غير المصطفين مع خط السلطة في تنظيم الحياة السياسية في البلاد من التعبير، فإن مجرد اللجوء إلى كل الخيارات المتاحة في ميدان التعبير عن الرأي في الانتخابات، ومنها العزوف بنوعيه، الإيجابي والسلبي، هو استخدام ذكي للصوت الانتخابي، وهو ما مكّن، مثلا، في أثناء الاقتراع في البرلمان على ميزانية 2017 (عرفت بـ"ميزانية العار"، بسبب الضرائب والاقتطاعات المالية التي فرضت على الجزائريين، فنجمت عنه موجة الغلاء في كل المجالات) من إيصال صوت الجزائريين إلى شبكات التواصل الاجتماعية، وملء صفحات الصحف بالأصوات المندّدة بذلك القانون. وكان المنطلق هو تصويت كتلة من البرلمانيين ضد القانون، بل ولجوئهم إلى التعبير عن ذلك بالاحتشاد، واقفين في بهو البرلمان للتعبير عن ذلك الرفض.
هل العزوف، كما كتب محمد الماغوط، ضربٌ من "خيانة الوطن"، أم أنه، إن استخدم بذكاء، نوع من اللجوء إلى تعبير جديد، يبتعد عن الصمت ويقترب من الإضراب والغضب، لكن في دائرة القانون. إنها الثقافة السياسية الجديدة للعرب في زمن انبعاث طبائع الاستبداد.