في اليوم الأول من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، فعّلت شركة "آبل" Apple تطبيقها الجديد المخصص للبث التلفزيوني، "آبل تي في بلاس". وأصدرت ستة مسلسلات دفعة واحدة، اثنان منها موجهان للأطفال، بالإضافة إلى برنامجين، وفيلم وثائقي؛ لتعلن بذلك عن دخولها عالم الإنتاج التلفزيوني رسمياً، بعد أربعة أعوام من التمهيد والتحضير لهذه الخطة. وقد قامت بإتاحة تطبيقها الخاص على أجهزة الشركات المنافسة، وحمّلت أعمالها على موقعها الإلكتروني الجديد الذي يحمل ذات الاسم، لتضمن انتشار أعمالها الدراميَّة، بأكبر قدرٍ ممكن.
واستخدمت "آبل" الأسلوب الذي تتبعه شركة "إتش بي أو" في بث أعمالها، فقامت بطرح الحلقات الثلاث الأولى من كل مسلسل، على أن تبث الحلقات التالية تباعاً بشكل أسبوعي، باستثناء مسلسل "ديكنسون" Dickinson الذي بُثَّت حلقاته كاملة، لتقدم للجمهور نموذجاً متكاملاً عن مسلسلاتها الدرامية. وتوجهت أنظار الجمهور سريعاً نحو مسلسل "سي" See، بسبب التصريحات الإعلامية المسبقة التي صنفت المسلسل، ذا الحلقات العشر، بأنه الأعلى كلفة إنتاجية في التاريخ، برصيد 150 مليون دولار للجزء الأول، أي ما يعادل 15 مليون دولار للحلقة الواحدة؛ وهي بذلك تعادل تكلفة حلقات الجزء الأخير من "صراع العروش" Game of Thrones الذي لم يتضمن سوى 6 حلقات. إلا أنَّ الحلقات الثلاث الأولى بدت مخيبة للآمال، فحصَلت على درجات متدنًية في تقييمات النقاد، بمعدل 38 في المائة على موقع Rotten Tomatoes، وعلى 7.7 على موقع IMDb.
تدور أحداث مسلسل See في المستقبل البعيد؛ المستقبل الذي تم تشكيله برؤية تشاؤمية تنذر بفناء غالبية البشر، وإصابة الناجين بالعمى. لتبدأ أحداث المسلسل بزمن، بات البشر فيه لا يؤمنون فيه بحاسة البصر، وبات مجرد الحديث عنها يعتبر هرطقة وكفراً. ليقدم المسلسل نموذجاً خاصاً عن حياة البشرية، بعد أن تتم إعادة هيكلتها معرفياً وإثنياً، يغدو فيها البصر خطراً يهدد الوجود البشري واستمراره؛ ليشكل ذلك حالة درامية خاصة يعيشها أبطال المسلسل المبصرون.
وقبل أن نستفيض بالحديث عن المسلسل الذي تبدو الخطوط العريضة في حكايته جذابة يجب أن نذكر أن الفرضية التي يتبناها المسلسل ليست جديدة كلياً، فهناك العديد من الأعمال الأدبية السابقة التي تحدثت عن العمى كحالة عامة، مثل رواية "العمى" لجوزيه ساراماغو، ومسرحية "العميان" لموريس ميترلنك، وقصة "بلد العميان" لهربرت جورج ويلز التي تبدو الأقرب لمسلسل See. لكنّ ثمة اختلافات، إذْ إنَّ العمى ليس حالة طارئة، كما هو الحال في رواية ساراماغو، كما أنه ليس حالةً تعبر عن العجز، كما في مسرحية ميترلنك، بل هو حالة عامة، استكان لها البشر وألفوها، وباتوا متأقلمين مع الحياة دون الحاجة إلى حاسة البصر.
وفي قصة "بلد العميان"، يدخل بطل الحكاية "نيونز" المدينة وهو مبصر، فيصف المكان بأن الألوان فيه غير متناسقة وفاقعة، وليس فيها نوافذ، وكأن من بناها أعمى كخفاش. في حين أن الصورة التي ظهرت عليها الحياة في مسلسل See ليست كذلك على الإطلاق، فبدلاً من تصميم الفضاء العام بشكل خالٍ من الجماليات، وليس فيه حاجة لخلق خصوصية بصريَّة. إلا إننا نجد صناع العمل يبنون شكل حياة خاصاً، يبدو بغاية البدائية، من دون أن يفسر هذا الفضاء التساؤلات المشروعة عن الطريقة التي يقوم بها العميان باختيار تصميمات ملابسهم وتنسيق ألوانها، وعن الأسباب التي تجعل الناس يرتدون الحلي ويوشمون أجسادهم إن كانوا لا يرون! وما حاجتهم للتستر! فلماذا تقوم الملكة مثلاً بتغطية جسدها بشرشف عندما تمارس العادة السرية؟!
بل إن عودة الحياة لصورتها البدائية تبدو أمراً غريباً بحد ذاته. فلمَ يتخلى الإنسان في المستقبل عن العمران البشري، ويعود للعيش بجوار الأنهار متخلياً عن كل التقنيات التي اخترعتها البشرية لتلبية المتطلبات الأساسية؟ ولمَ يعود الإنسان لاستخدام أسلحة بدائية الصنع؟ أليس من الأسهل للعميان أن يستخدموا الإرث الذي تركه البشري؟ ولماذا سيقوم الناجون المبصرون باستخدام الأسهم بدلاً من الأسلحة النارية؟ وما الأسباب التي تدفع العميان لاختراع آلات موسيقية بدائية مكونة من أنياب الحيوانات البرية! ولنفترض أن كل الإرث البشري قد تعرض للفناء بعد حرب كونية، فكيف نجت رواية "1984" لجورج أورويل وما تبقى من كتب، ولم تنجُ الآلات الموسيقية!
وأما فيما يخص شخصيات المبصرين، فإنها تظهر في قصة ويلز كشخصيات لها خصلة رئيسية، وهي القدرة على التمتع بالجمال، بل ولها إدراك خاص بالجمال، يجعلها تنتقي ما يعتبره العميان قبيحاً، وفقاً لمعاييرهم المستندة لحاسة اللمس بشكل رئيسي. في حين أن مسلسل See لا يعير أي أهمية لمفهوم الجمال، فتشرق الشمس وتغرب أمام المبصرين، وكأن شيئاً لم يكن.
وبعيداً عن المشاكل التي تتعلق بالدرجة الأولى بإخراج المسلسل المكلف من دون إقناع؛ فإن مسلسل See يتمتع ببعض الخصال الفريدة، أبرزها هي الطريقة التي تم بها تصوير قدرة العقل البشري على اختلاق الآلهة والديانات مهما تغيرت الظروف، وتصويره للطبيعة الدموية للبشر، وميل البشر نحو الامتلاك والاستعباد؛ ليقول المسلسل إن الأمور المخزية في تاريخ البشر، لن تتغير حتى لو أصبحنا أكفاء، مادام العقل البشري يعمل بذات الطريقة.