"سي آي إيه": لغة الشوارع
حسناً، ظهرت الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) "على حقيقتها" لمن كان لا يزال غير مدرك حقيقتها. رسّخت المؤسسة الأمنية الأخطر في تاريخ البلاد سمعتها، جهازاً لا يتورّع عن القيام بأي شيء "بغية معرفة الحقائق وانتزاع الاعترافات حماية للأمن القومي الأميركي". ماذا كنا نتوقع من "تقرير التعذيب" الذي كشف عنه الكونغرس الأميركي أخيراً، والذي أبان عن ممارسات "سي آي إيه" حول العالم؟ هل كنا، فعلاً، نتوقع أن يكون التقرير "نظيفاً"، وأن الاستخبارات الأميركية جزء من جوقة دينية، أو منظمة خيرية؟ لم تكن الاستخبارات الأميركية قط "نزيهة" أو "قانونية"، شأنها شأن معظم أجهزة الاستخبارات في العالم. إنها ابنة المجتمع الأميركي، المجتمع الذي وُلد بسرعة هائلة، بفعل مواسم هجرات متفاوتة النمو. لم تولد الاستخبارات الأميركية كنظيرتها الفرنسية، ببطء وتدرّجٍ، بل كانت مثل قطار فائق السرعة، وعلى الجميع ركوبه، وهو يتحرّك.
وُلدت الاستخبارات الأميركية من رحم الولايات المتحدة التي تعاني من انفصام قومي، يشهد عليه الهنود الحمر، السكان الأوائل. وُلدت في بلاد تعيش العنصرية العرقية يومياً، ويظهر ذلك في شوارع فيرغسون ونيويورك وكليفلاند. كما أن العوامل الجيوبوليتيكية التي رافقت أحداث القرن العشرين، من حربين عالميتين والحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، والحاجة إلى أرضية استخبارية، تبرّر للجيش الأميركي غزو البلدان، كلها كانت في صلب تفكير الاستخبارات. أما في القرن الـ21، فتركت أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 آثارها على "سي آي إيه"، فوضعت جميع الهواتف الأميركية، تقريباً، تحت المراقبة اليومية. أُنشئت "السجون السرية"، لا في الولايات المتحدة فحسب، بل في بلدان عدة. وضعت "لمساتها" على الشركات الأمنية الخاصة، التي تُشكّل ظهيراً أساسياً للجيش الأميركي، في مختلف أنحاء العالم. لم تكن مجرّد جهاز استخباري يعتمد على رجل في الشارع، يتصل للإبلاغ عن سرقة ما، بل باتت هي الرجل وهي السارق وهي الشرطة، من أجل المساهمة في رسم السياسة الأميركية.
جاءت الاستخبارات الأميركية من خلفية "الواقعية الشارعية"، لا من خلفيات "المثاليات القانونية". لذلك، سيكون" مفهوماً"، وحتى "معذوراً"، أن يكشف التقرير عن وحشيتها وعدم قانونية وسائل الاعتراف التي تعتمدها، وهي اللغة اللطيفة لـ"وسائل التعذيب". وسيكون من الطبيعي "انتصار" المنطق اللإانساني في وسائل التعذيب الأميركية، على أن المسألة لا تقف هنا، وإن أظهر الرئيس الأميركي، باراك أوباما، "عشقه" حرية المعلومات، وحب إطلاع الجمهور على كل شيء. لم يفعل أوباما سوى ما أراده الحزب الديمقراطي أن يفعله: محاربة الجمهوريين بكل الوسائل المتاحة، لعرقلة مساره الرئاسي في انتخابات 2016. كان واضحاً أن الديمقراطيين لن يتمكنوا من ابتلاع هزيمتهم التاريخية في الانتخابات النصفية للكونغرس التي جرت الشهر الماضي بسهولة. كان معلوماً أن أوباما وحزبه سيقومون بردّ فعل ما، فترك الأمور على غاربها سيُمهّد لتحطيمهم وتركهم أرضاً فترة طويلة، في ظلّ ترسيخهم مفاهيم "غير اعتيادية" في التاريخ الأميركي المعاصر، من "الرعاية الصحية" في الداخل إلى "شبه الاتفاق" مع إيران في الخارج.
أراد أوباما وفريقه الإضاءة على تقرير، يُظهر بالكامل ما جرى في عهد سلفه، الرئيس المحارب، جورج دبليو بوش، ومن خلاله يُمكن "إرعاب" الأميركيين، من "مغبّة انتخاب الجمهوريين مجدداً". يُظهر هذا مدى الشعور اليائس الذي يكتنف الديمقراطيين، وإحساسهم بالهزيمة المحتمة سياسياً. يتصرفون على قاعدة أنه لم يعد لديهم ما يخسرونه، وفي استطاعتهم الضرب تحت الحزام بسهولة، لعرقلة عودة الجمهوريين مجدداً إلى البيت الأبيض، مع العلم بأن أوباما، وفي مساعيه إلى كشف التقرير، لن يحاول تحطيم "سي آي إيه"، فهو سيحتاجها في نهاية المطاف، فأمامه سنتان من التعايش معها. لا أحد يحطم جيشه في حرب داخلية، سوى غير الواقعي. أوباما، حتى الآن، ما زال واقعياً.