16 أكتوبر 2024
"شهيد الحكرة"
نعم، عاد الناس إلى الشوارع، وامتلأت المدن بالمظاهرات، وصدحت الحناجر بأغاني الفرح. لا يتعلق الأمر بأمنيةٍ ولا برؤية، وإنما هي حقيقة ما شهده الشارع المغربي، مساء الأحد 30 أكتوبر/ تشرين الأول، عندما نزل آلاف المتظاهرين في أكثر من 40 مدينة وقرية مغربية للتنديد بالظلم و"الحكرة" التي طالت مواطناً مغربياً اسمه محسن فكري.
مساء 29 أكتوبر، أوقفت عناصر من الأمن، في مدينة الحسيمة أقصى شمال المغرب، المواطن، ومهنته بائع سمك، في ميناء المدينة، عندما كان الشاب (31 سنة) يهم بإخراج بضاعته من السمك، ليورده إلى أحد أسواق المدينة، لكن عناصر الأمن في المكان صادروا بضاعته، بدعوى أن الموسم هو "راحة بيولوجية" يُمنع فيه الصيد. وإمعاناً في "تطبيق القانون" رموا البضاعة في آلة شفط الزبالة في إحدى الشاحنات المخصصة لهذا الغرض، فما كان من الشاب إلا أن ارتمى وراء بضاعته، محاولا استعادتها، لكن آلة الشفط كانت أسرع وأقوى من إرادته، فسحق هو وبضاعته بطريقة مأساوية. وسرعان ما انتشرت الصور والفيديوهات التي تسجل اللحظة، وغصّت المواقع الاجتماعية بهاشتاغ #طحن_مو. وتعني العبارة بالدارجة المغربية "اطحن أمه"، وفيها إمعان في الاحتقار والانتقام.
لم تكن تداعيات الحادث متوقعة، ولم يشهد لها المغرب مثيلا منذ تظاهرات "الحراك الشعبي" عام 2011، وهو ما يوازي النسخة المغربية من "الربيع العربي"، فقد أجبر سكان تلك البلدة الصغير عَاملها (محافظها) الذي يعتبر المسؤول الإدراي الأول داخل المدينة، ووكيل عام الملك، أي ممثل النيابة العامة فيها، على النزول في الهزيع الأخير من الليل إلى الشارع لمحاورة المتظاهرين.
وفي تلك الليلة الطويلة، وطوال اليوم التالي، تحرك "شعب الفيسبوك" كما يسميه المغاربة،
فقرارات التظاهر في أكثر من 40 مدينة وقرية مغربية قرّرها نشطاء من رواد الفضاء الأزرق، وجنازة ما بات يعرف في المغرب بـ "شهيد الحكرة" حدّد موعدها ونظّم مسار موكبها النشطاء أنفسهم. وفي كل المظاهرات التي شهدتها القرى والمدن المغربية، كانت عناصر الأمن شبه غائبة، ربما تفادياً للاحتكاك بالمتظاهرين الغاضبين، والنتيجة أن جميع المظاهرات جرت في أجواء سلمية، حتى الموكب الجنائزي الذي امتد خمسة كيلومترات سار فيه المشيعون من دون أمن، ومن دون أن يقع أي حادث يذكر، على الرغم من مشاركة الآلاف فيه.
كل المسيرات الاحتجاجية التي تفاعلت مع هذا الحدث المأساوي، الذي أمر الملك محمد السادس بفتح تحقيق في أسبابه، وإنزال أشد العقوبات بالمتورطين فيه، كانت تحت شعار كبير رفعه المغاربة في أكثر من قرية ومدينة يقول: "لا للحكرة" (لا للاحتقار)، فليست هذه المرة الأولى التي يشعر فيها مواطن مغربي بالاحتقار، نتيجة هضم حقوقه، أو جراء ظلم تعرّض له من مسؤول في السلطة، فيلجأ إلى إيذاء نفسه تعبيراً عن غضبه. ففي أبريل/ نيسان الماضي، أضرمت امرأة، بائعة فطائر، في مدينة القنيطرة (قرب الرباط) في نفسها، حتى ماتت حرقاً احتجاجاً على مصادرة رجال أمن بضاعتها من الفطائر، والتي لم يكن رأسمالها يتعدّى 22 درهما، أي بالكاد دولارين ونصف دولار! ويومها أقام "شعب الفيسبوك" الدنيا، وانتشر في الفضاء الأزرق هاشتاغ #مي_فتيحة، نسبة إلى الأم الشهيدة فتيحة. ومرة أخرى، تعهدت السلطات المغربية بفتح تحقيق في الحادث المؤلم ومعاقبة المسؤولين، لكن شيئاً من ذلك لم يقع.
ثمّة كثيرون ينظرون إلى المغرب حالة استثنائية وفريدة، إذ استطاع أن يعبر إعصار الربيع العربي بأقل الخسائر وأهون الأضرار، وهذا صحيح إلى حد كبير، عند مقارنة المغرب بمصائر دول أخرى مشابهة في المنطقة. لكن، يبدو أن عقلية ما قبل الربيع العربي ما زالت مخزنة في جهاز الدولة العميقة، ويصعب اقتلاعها من دون فرض "دولة القانون"، والقطع مع سياسات "الإفلات من العقاب"، لأنها التي تشجع على التمادي في ظلم المواطن واحتقاره. ولعل من بين أهم رسائل المظاهرات التي يشهدها الشارع المغربي تفاعلاً مع كل حالة ظلم، أو احتقار تتعرّض لها مواطنة أو مواطن، هو تذكير الحاكمين بأن رياح الربيع العربي ما زالت تهب، وبأنه بعد كل فصل خريف يزهر الربيع من جديد.
مساء 29 أكتوبر، أوقفت عناصر من الأمن، في مدينة الحسيمة أقصى شمال المغرب، المواطن، ومهنته بائع سمك، في ميناء المدينة، عندما كان الشاب (31 سنة) يهم بإخراج بضاعته من السمك، ليورده إلى أحد أسواق المدينة، لكن عناصر الأمن في المكان صادروا بضاعته، بدعوى أن الموسم هو "راحة بيولوجية" يُمنع فيه الصيد. وإمعاناً في "تطبيق القانون" رموا البضاعة في آلة شفط الزبالة في إحدى الشاحنات المخصصة لهذا الغرض، فما كان من الشاب إلا أن ارتمى وراء بضاعته، محاولا استعادتها، لكن آلة الشفط كانت أسرع وأقوى من إرادته، فسحق هو وبضاعته بطريقة مأساوية. وسرعان ما انتشرت الصور والفيديوهات التي تسجل اللحظة، وغصّت المواقع الاجتماعية بهاشتاغ #طحن_مو. وتعني العبارة بالدارجة المغربية "اطحن أمه"، وفيها إمعان في الاحتقار والانتقام.
لم تكن تداعيات الحادث متوقعة، ولم يشهد لها المغرب مثيلا منذ تظاهرات "الحراك الشعبي" عام 2011، وهو ما يوازي النسخة المغربية من "الربيع العربي"، فقد أجبر سكان تلك البلدة الصغير عَاملها (محافظها) الذي يعتبر المسؤول الإدراي الأول داخل المدينة، ووكيل عام الملك، أي ممثل النيابة العامة فيها، على النزول في الهزيع الأخير من الليل إلى الشارع لمحاورة المتظاهرين.
وفي تلك الليلة الطويلة، وطوال اليوم التالي، تحرك "شعب الفيسبوك" كما يسميه المغاربة،
كل المسيرات الاحتجاجية التي تفاعلت مع هذا الحدث المأساوي، الذي أمر الملك محمد السادس بفتح تحقيق في أسبابه، وإنزال أشد العقوبات بالمتورطين فيه، كانت تحت شعار كبير رفعه المغاربة في أكثر من قرية ومدينة يقول: "لا للحكرة" (لا للاحتقار)، فليست هذه المرة الأولى التي يشعر فيها مواطن مغربي بالاحتقار، نتيجة هضم حقوقه، أو جراء ظلم تعرّض له من مسؤول في السلطة، فيلجأ إلى إيذاء نفسه تعبيراً عن غضبه. ففي أبريل/ نيسان الماضي، أضرمت امرأة، بائعة فطائر، في مدينة القنيطرة (قرب الرباط) في نفسها، حتى ماتت حرقاً احتجاجاً على مصادرة رجال أمن بضاعتها من الفطائر، والتي لم يكن رأسمالها يتعدّى 22 درهما، أي بالكاد دولارين ونصف دولار! ويومها أقام "شعب الفيسبوك" الدنيا، وانتشر في الفضاء الأزرق هاشتاغ #مي_فتيحة، نسبة إلى الأم الشهيدة فتيحة. ومرة أخرى، تعهدت السلطات المغربية بفتح تحقيق في الحادث المؤلم ومعاقبة المسؤولين، لكن شيئاً من ذلك لم يقع.
ثمّة كثيرون ينظرون إلى المغرب حالة استثنائية وفريدة، إذ استطاع أن يعبر إعصار الربيع العربي بأقل الخسائر وأهون الأضرار، وهذا صحيح إلى حد كبير، عند مقارنة المغرب بمصائر دول أخرى مشابهة في المنطقة. لكن، يبدو أن عقلية ما قبل الربيع العربي ما زالت مخزنة في جهاز الدولة العميقة، ويصعب اقتلاعها من دون فرض "دولة القانون"، والقطع مع سياسات "الإفلات من العقاب"، لأنها التي تشجع على التمادي في ظلم المواطن واحتقاره. ولعل من بين أهم رسائل المظاهرات التي يشهدها الشارع المغربي تفاعلاً مع كل حالة ظلم، أو احتقار تتعرّض لها مواطنة أو مواطن، هو تذكير الحاكمين بأن رياح الربيع العربي ما زالت تهب، وبأنه بعد كل فصل خريف يزهر الربيع من جديد.