31 أكتوبر 2024
"شيعة السفارة" وفنون الرجم الممانِع
"الخبْطة" الإعلامية التي حققتها صحيفة الأخبار أخيراً تستحق التقدير. قبلها بأيام، كان الصحافي علي الأمين، المرشح المعارض لحزب الله يتعرّض لضرب مبرح على يد ثلاثين شبيحا أتوا من عالم الأشباح، أو هكذا تودّ الصحيفة أن يكونوا.. مناخ الخبْطة: تلك الصحيفة هدّدت علي الأمين مراراً، وأدرجته باكراً ضمن لائحةٍ أذاعها قادة الممانعة، سمّوها "شيعة السفارة"، أي الشيعة الذين يحصلون على الأموال من السفارة الأميركية مقابل معارضتهم حزب الله.. ها هي الصحيفة "تتفاعل" الآن مع تعرّض علي الأمين لضرب الشبيحة، بـ"خبْطتها"؛ والتي يمكن أن تفهم فحواها، وبعمق، بمجرد إلقاء نظرة على غلاف العدد الخاص بها: صور لثمان وعشرين شخصية شيعية؛ منهم مرشحون على لوائح تعارض حزب الله، ومنهم مثقفون كبار، وجميعهم مستقلون، فاعلون في المجال العام، ولهم رأيهم في سلاح حزب الله. وعلى هذا الغلاف، "شيعة السفارة"، تكتب الصحيفة بالخط العريض تحت صورهم أنها تعرض ما ورد في برقياتٍ سريةٍ مسرّبة للسفير الإماراتي في لبنان "حول الأشخاص المحتاجين لدعم وتمويل لمواجهة حزب الله". وفي أسفل الصورة على اليسار، ما يشبه الأختام الرسمية، مستطيلٌ كُتب عليه: "معلوماتها مصدّقة من السفارة الإماراتية" (يعني أن سفارة الإمارات صدقت على ماذا؟ وكيف؟ طالما أنها مسرّبة؟). وعلى يمين الصورة، دائماً تحت
صور أصحاب الأسماء، رسومٌ تتفوق على الكلمة: صُرَّة مربوطة بحزم حتى أعلاها، لنقودٍ معدنيةٍ تكاد تفيض عنها، كالتي كان يغدقها الأئمة أو السلاطين على مدّاحيهم؛ وأمام الصُرًّة رزْماتٌ ورقيةٌ مما يبدو أنها دولارات. بمعنى آخر، لعبت الصحيفة على إيحاءات الصورة، على رصيدها الماضي في تقبيح المعارضين الشيعة، رجمتهم بمزيد من الحجارة.. فأفهمتنا، قبل أن ندخل إلى صفحاتها الداخلية، وبقوة الرسومات، وما أثمرته من معانٍ تحيط بالكلمات.. بأن الثماني عشرة شخصية هذه، المعارضة لحزب الله، تشحذ أموالاً من السفارة الأميركية. الغلاف قال كل شيء، فما الحاجة إلى التفاصيل "المهنية" في الداخل..؟
هكذا، أعادت "الأخبار" الاعتبار إلى معركتها المصيرية مع الذين يعارضون حزب الله من أبناء الطائفة الشيعية، فشدَّدت على قاعدتين عقيديتين، منَصِّبة نفسها، صوتاً محورياً في معارك حزب الله المصيرية، والانتخابية منها خصوصاً. الأولى: أي مواطن لبناني، شيعياً كان أو من طائفة أخرى، يكون معادياً للشيعة، إن خاصم حزب الله. كان يمكن تسمية هؤلاء الشيعة "معارضي محور الممانعة"، أو "أزلام السفارة الأميركية"، أو "أصحاب المحور الغربي"، أو "محور الشرّ" .. إلخ. أما أن يُسمّوا "شيعة السفارة"، فهذا يبطن أن هؤلاء يخاصمون كل الشيعة الآخرين الذين يوالون حزب الله، ولا يقبضون من السفارة؛ أي أن ثمة شيعة، وثمة "شيعة السفارة"، فقط لا غير.. القاعدة الثانية: بتركيزها على "شيعة السفارة" تفرض الصحيفة السؤال عن غياب "سنّة السفارة"، أو "موارِنة السفارة"، أو "أرثوذكس السفارة" إلى ما هنالك.. كل الطوائف الأخرى متعدّدة المحاور والشخصيات، لا بل القيادات. كل زعاماتها قَلِقة على عروشها، من إمكانية إزاحتها، أو إضعافها في قلب طائفتها. ولكن لم يتولّد لديها ما يوازي "شيعة السفارة".
أسباب هذا "العقم" الحميد كثيرة، ولا يمكن التمعّن بها في هذه العُجالة، لكنه "عقمٌ" يلقي الضوء على الطبيعة السلطوية لقيادة الممانعة، وعلى استقْتالها للبقاء محتكرة حكمها على الطائفة. أحادية لا تحتاح إلى تبيان علاقتها بالاستبداد. وليس الأمر غريباً عليها، إذ هي تقتل السوريين دفاعاً عن بشار الأسد. ولكن أن تنظر صحيفةٌ، برسومها وكليشيهاتها، وإرثها التشهيري، لعقيدة الأحادية من دون وجَل، وبنوعٍ من الإفراط في التذاكي، فهذا ما لا يتوقف أبداً. وفي الأمر تماهٍ واضح بين الحزب مطلق الوجود، قائد هذه الممانعة، والصحيفة، الشغوفة به؛ خصوصا رئيس تحريرها. وذاكرته تضجّ بتلك المقالات التي دعا فيها "شيعة السفارة"، وبالأسماء، إلى "تحسّس رؤوسهم"...
واليوم، بعد أن ضرب هذا الرئيس بالوحل، ولطّخ سمعة مواطنين شيعة لهم رأيهم المستقل، ها هو يقدم صكّ الغفران لواحد منهم، هو حسّان الزين، بعدما هدّد الأخير بإضرابٍ عن الطعام حتى الاعتذار. لأسبابٍ لا نعرفها، اعتذر رئيس التحرير. ولكن ما هي العبارات الواردة في صكّه هذا؟ قال "ونحن نجزم أن حسان الزين لا علاقة له بالسفارات"، مثل قرار رسمي، من مرجع أعلى، "يجزم"، بسلطةٍ يقينه؛ يقول "نحن"، من دون توضيح من يكونون، أولئك "النحن"، أم أن "الأنا" عنده فرّخت "أنوات".
وهكذا طُويت الخبْطة، إلى حين آخر، أو محاسبةٍ جدّيةٍ على عبَثها بسمعة ثمانية وعشرين
شخصية شيعية، أو بانتظار مخيلاتٍ قادمةٍ تضيف سواداً إلى اسوداد قلوب المعجبين بها. لم تعد "الأخبار" تستحق اسمها. لم تَعُد توصل خبراً، أو تكتفي بايصال جزءٍ منه؛ أضافت إلى مصفاة العقيدة الممانعة، مصفاة أخرى، هي الفضائحية، الرخيصة دائماً. فمن نافذة "حبها الحياة"، ورداً على نعت الممانعين بالكارهين لها، انطلقت وأخذت حريتها في تلقّف تعبيرات هذا الحب. ومنها صنع المفاجآت والسكوبات والعناوين الصادمة الجذابة، ومنها تفلّت اللسان، دائماً ضد خصوم الممانعة، مع قليلٍ من البهارات التنويعية.. فاختلط عندها المهني بالحزبي بالفضائحي، وفي الآن عينه، ازداد تشديدها "الرفاقي" على قواعد الممانعة التي يجب تطبيقها أينما توجهت الأقلام. فأصبحت مثل خليةٍ لحزب مندثر، متعلقٍ بقشة هنا وقفشةٍ هناك وخدعة بصرية.. إلى ما هنالك من أدوات الصحافة الصفراء، المثيرة والمسلية، والملغومة دائماً.. كيف يستوي الشيئان؟ خفّة التلغيم الفضائحي وثقل الرصانة النضالية؟
ثم يأتي الكلام عن مؤسّس الصحيفة، الراحل جوزيف سماحة الذي تُمْعن "الأخبار" باستحضاره في جولاتها، مثل رصيدٍ من رأسمالٍ رمزي ورثَته منه، فشنّعت به كما يفعل الورَثة العُصاة. والسؤال: هل كانت "الأخبار" نحتْ هذا المنحى، لو بقي جوزيف سماحة حيّاً؟ هل مهنيته الرفيعة كانت ستسمح لـ"الأخبار" بأن تتحوّل إلى صحيفةٍ صفراء حزبية، حصرية؟ لا يمكن الإجابة عن الراحل، وهو راقدٌ في قبره، صامتٌ مدى الدهر. يمكن التخيّل، فقط التخيّل...
هكذا، أعادت "الأخبار" الاعتبار إلى معركتها المصيرية مع الذين يعارضون حزب الله من أبناء الطائفة الشيعية، فشدَّدت على قاعدتين عقيديتين، منَصِّبة نفسها، صوتاً محورياً في معارك حزب الله المصيرية، والانتخابية منها خصوصاً. الأولى: أي مواطن لبناني، شيعياً كان أو من طائفة أخرى، يكون معادياً للشيعة، إن خاصم حزب الله. كان يمكن تسمية هؤلاء الشيعة "معارضي محور الممانعة"، أو "أزلام السفارة الأميركية"، أو "أصحاب المحور الغربي"، أو "محور الشرّ" .. إلخ. أما أن يُسمّوا "شيعة السفارة"، فهذا يبطن أن هؤلاء يخاصمون كل الشيعة الآخرين الذين يوالون حزب الله، ولا يقبضون من السفارة؛ أي أن ثمة شيعة، وثمة "شيعة السفارة"، فقط لا غير.. القاعدة الثانية: بتركيزها على "شيعة السفارة" تفرض الصحيفة السؤال عن غياب "سنّة السفارة"، أو "موارِنة السفارة"، أو "أرثوذكس السفارة" إلى ما هنالك.. كل الطوائف الأخرى متعدّدة المحاور والشخصيات، لا بل القيادات. كل زعاماتها قَلِقة على عروشها، من إمكانية إزاحتها، أو إضعافها في قلب طائفتها. ولكن لم يتولّد لديها ما يوازي "شيعة السفارة".
أسباب هذا "العقم" الحميد كثيرة، ولا يمكن التمعّن بها في هذه العُجالة، لكنه "عقمٌ" يلقي الضوء على الطبيعة السلطوية لقيادة الممانعة، وعلى استقْتالها للبقاء محتكرة حكمها على الطائفة. أحادية لا تحتاح إلى تبيان علاقتها بالاستبداد. وليس الأمر غريباً عليها، إذ هي تقتل السوريين دفاعاً عن بشار الأسد. ولكن أن تنظر صحيفةٌ، برسومها وكليشيهاتها، وإرثها التشهيري، لعقيدة الأحادية من دون وجَل، وبنوعٍ من الإفراط في التذاكي، فهذا ما لا يتوقف أبداً. وفي الأمر تماهٍ واضح بين الحزب مطلق الوجود، قائد هذه الممانعة، والصحيفة، الشغوفة به؛ خصوصا رئيس تحريرها. وذاكرته تضجّ بتلك المقالات التي دعا فيها "شيعة السفارة"، وبالأسماء، إلى "تحسّس رؤوسهم"...
واليوم، بعد أن ضرب هذا الرئيس بالوحل، ولطّخ سمعة مواطنين شيعة لهم رأيهم المستقل، ها هو يقدم صكّ الغفران لواحد منهم، هو حسّان الزين، بعدما هدّد الأخير بإضرابٍ عن الطعام حتى الاعتذار. لأسبابٍ لا نعرفها، اعتذر رئيس التحرير. ولكن ما هي العبارات الواردة في صكّه هذا؟ قال "ونحن نجزم أن حسان الزين لا علاقة له بالسفارات"، مثل قرار رسمي، من مرجع أعلى، "يجزم"، بسلطةٍ يقينه؛ يقول "نحن"، من دون توضيح من يكونون، أولئك "النحن"، أم أن "الأنا" عنده فرّخت "أنوات".
وهكذا طُويت الخبْطة، إلى حين آخر، أو محاسبةٍ جدّيةٍ على عبَثها بسمعة ثمانية وعشرين
ثم يأتي الكلام عن مؤسّس الصحيفة، الراحل جوزيف سماحة الذي تُمْعن "الأخبار" باستحضاره في جولاتها، مثل رصيدٍ من رأسمالٍ رمزي ورثَته منه، فشنّعت به كما يفعل الورَثة العُصاة. والسؤال: هل كانت "الأخبار" نحتْ هذا المنحى، لو بقي جوزيف سماحة حيّاً؟ هل مهنيته الرفيعة كانت ستسمح لـ"الأخبار" بأن تتحوّل إلى صحيفةٍ صفراء حزبية، حصرية؟ لا يمكن الإجابة عن الراحل، وهو راقدٌ في قبره، صامتٌ مدى الدهر. يمكن التخيّل، فقط التخيّل...