لم يتوقف الحديث عن مسألة تجديد الخطاب الديني طيلة 2017، وانتهى العام بتدشين اللقاء الأول لـ "صالون ابن رشد" ليصبّ في نفس الخطة السنوية التي رُسمت لمسار العمل الثقافي في مصر للحديث حول التنوير والتجديد وإعمال العقل.
عُقدت أولى جلسات "الصالون"، الذي يترأسه أستاذ الفلسفة المصري مراد وهبه (1926) في "المجلس الأعلى للثقافة" يوم الأحد الماضي، وكانت مناسبة لمتابعة نقاش تجمّع "علماني" من الأكاديميين المصريين. أغلبهم من مؤسسي ورواد "منتدى ابن رشد"، الذي يُعقد منذ عام 2000 -على استحياء- في منطقة رمسيس. من هؤلاء المؤسسين منى أبو سنة وحسن البيلاوي وعصام عبد الفتاح ومحمود حميدة والقس رفعت فكري.
تردّدت خلال اللقاء أكثر من مرة على لسان المحاضرين، خصوصاً وهبه وأبو سنة؛ عبارة مثيرة للعجب: "سفينة العلمانية رست أخيراً على مرفأها الصحيح وهو مرفأ وزارة الثقافة". العبارة قيلت في سياق انتصار العلمانية، وكأن العلمانية صارت تحكم فعلياً أو أن العلمانية إذا كانت خارج الإطار الحكومي فهي هامشية وغير مؤثرة.
توحي هذه العبارة بحالة الهلع التي كثيراً ما يتبناها العلمانيون في مصر، كأنهم يعيدون إنتاج سيناريو فيلم "أشباح غويا" حيث محاكم التفتيش الدينية تضغط بقبضتها على الفنانين وتسلخ البطلة لرفضها أكل لحم الخنزير. هذا الهلع، يغلّب الحديث حول التكفير والقتل على حساب الحديث في الفلسفة والفكر والشأن العام.
في كلمته، وصف وهبه المرحلة التي نعيشها باعتبارها "حقبة الإرهاب بامتياز"، يقول: "نحن نعيش في القرن الثاني وليس القرن الحادي والعشرين، فالتكفير والقتل تفشى على يد الجماعات الدينية". يتناسى وهبه هنا، ككثير من العلمانيين المصريين، أن الإرهاب لم يكن في أي زمان -وخاصة زماننا- مرتبطاً بالجماعات الدينية وحدها، وهذا الاجتزاء يوحي بأنه لا توجد حاجة راهنة للحديث عن إرهاب الدولة أو حتى عن الإرهاب الثقافي.
كما انتقد الأكاديمي المصري فكر المعتزلة رداً على سؤال: "لماذا يستلهم الصالون فكر ابن رشد فقط، ولم يتم تسليط الضوء على فكر المعتزلة على سبيل المثال؟". يقول: "المعتزلة تشتتوا لأكثر من عشرين فرقة، وكفّر بعضهم بعضاً لذلك لم تكن هناك حاجة للاستعانة بهم في مشروعنا الرشدي التنويري لمحاربة التكفير والإقصاء"، يقول وهبه ذلك، ورغم أنه هو نفسه سبق أن اتهم المثقفين المعارضين للسيسي بالخونة، وهو اتهام يكاد يكون مرادفاً للتكفير لما يحمله من معاني الإقصاء والتعريض للأذى النفسي والبدني.
مفكرو علم الكلام لم يلاقوا، هم أيضاً، استحسان وهبه وقال عنهم: "مشروعهم متبلور حول المناظرات في التكفير. ولو انتهى التكفير، فإن علم الكلام ينتهي بالضرورة". هنا يمكننا الانطلاق من نفس الفرضية التي افترضها بالتساؤل: ماذا لو انتهى الحديث عن الأصولية، هل تنتهي العلمانية؟ خاصة أن العلمانية (بفهم وهبه ورفاقه) تناست باقي شؤونها ووضعت الأصولية فقط نصب عينها وكأنها العائق الوحيد أمامها.
من جهته، وفي كلمته التي بدت بعيدة عن السياق العام، عارض ثروت الخرباوي، مسألة اعتبار التكفير والقتل مرتبطين بالقرآن والسنة. واعتبر أن القتل الذي أشارت له الأسانيد الدينية هو القتال بهدف الدفاع عن النفس. كما نصح الخرباوي بـ"اعتبار مشروع ابن رشد نقطة ابتداء وليس نقطة انتهاء" داعياً إلى تطوير مشروع ابن رشد التنويري، كأنما يلمح إلى ضرورة ألا يصبح العلمانيون أيضاً أصوليين، بالاستناد إلى مراجع تنويرية باعتبارها مقدسات.
الحديث حول التنوير وإعمال العقل يفتح على مسائل متشعّبة تستدعي أفكاراً معاصرة وتراثية، لكن قصر التنوير على تيار رشدي متلخص في ابن رشد أمر مستغرب. مراد وهبه يقدّم هنا أيضاً تفسيره الخطير: "ابن رشد يعرفه الغرب جيداً وساهمت أفكاره في تغيير شكل الحياة في أوروبا برمتها"، بذلك نعود إلى عقدة الغرب التي تعاني منها العلمانية المصرية وتدور في فلكها دون كلل.