"صفقة القرن" انتصاراً نهائياً لليمين الصهيوني

19 فبراير 2020
+ الخط -
كان وجود "مشكلة يهودية" في أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر بحاجة إلى حل، هو الأساس الذي انطلقت منه الحركة الصهيونية في الدعوة إلى إقامة "وطن قومي لليهود". وحول شعار "الوطن القومي اليهودي"، تمحورت الجهود الصهيونية التي بدأت تجد استجابة لها في الدول الاستعمارية الغربية في بداية القرن العشرين، توجت في العام 1917 بوعد بلفور الشهير الذي قدّمته بريطانيا إلى اللورد روتشيلد. وكان بمثابة وعد للحركة الصهيونية بـ"وطن لليهود" في فلسطين، سهلت سلطات الاحتلال البريطاني في ما بعد الهجرة اليهودية إلى فلسطين لتنفيذه. وقد تقاطعت ظروف دولية وإقليمية مواتية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، جعلت تنفيذ هذا الوعد على الأرض الفلسطينية ممكناً، فأقامت الحركة الصهيونية دولتها على جزءٍ من الأرض الفلسطينية من دون تحديد حدود الدولة، على اعتبار أن جزءاً من أرض إسرائيل التوراتية بقي تحت سيطرة العرب، وهو ما سيشكل بعد عقود مدخلاً لليمين الإسرائيلي، للمطالبة بوعد بلفور جديد، يتعلق بالضفة الغربية. 
مع قيام إسرائيل في العام 1948، تجسّد مشروع الحركة الصهيونية على الأرض، وولّد هذا التجسيد تناقضاً بين الدولة حديثة العهد والمنظمة الصهيونية التي اعتبرت نفسها صاحبة المشروع، والتي يجب أن تستمر في الإشراف عليه. كان هذا التناقض بين زعماء الحركة الصهيونية في الأراضي الفلسطينية الذين وجدوا أنفسهم قادة دولة إسرائيل، وبين زعماء الحركة الصهيونية الذين يعتبرون أنفسهم قادة اليهود في كل مكان، بما فيها الدولة الوليدة حديثاً، إسرائيل. لم يناسب ديفيد بن غوريون الذي يعتبر مؤسّس دولة إسرائيل أن يبقى تحت رحمة المنظمة 
الصهيونية، واعتبر أن مهمة هذه المنظمة بعد إقامة دولة إسرائيل تتمحور حول دعم هذه الدولة، وليس لها مهمة مستقلة تملي من خلالها على إسرائيل سياساتها، بل على هذه المنظمة أن تتبنّى سياسات إسرائيل، وتعمل على تكريسها في أماكن وجودها. لذلك، اعتبر بن غوريون أن المنظمة الصهيونية كانت سقالة لبناء دولة إسرائيل، وهذا الدور انتهى بقيام الدولة، وهذه السقالة التي بنت الدولة العبرية تكمن مهمتها في دعم هذه الدولة ليس أكثر.
منذ إعلان بن غوريون مركزية إسرائيل في العمل الصهيوني، دخلت الصهيونية في أزمة تتعلق بمركزيتها، وبالتالي بجدواها. وفجّر بن غوريون هذا الخلاف على قاعدة أن قادة الحركة الصهيونية، وعلى رأسهم ناحوم غولدمان، كانوا يعتبرون أن الحركة الصهيونية لم تستكمل مهامها التاريخية بعد. وقد حسم هذا الصراع لصالح التيار الذي مثله بن غوريون بمركزية إسرائيل في العمل الصهيوني، وبدل أن تكون إسرائيل أداةً بيد الحركة الصهيونية، أصبحت الحركة الصهيونية أداة بيد إسرائيل.
مع الوصول إلى الستينيات من القرن العشرين، ولد في إسرائيل اتجاه أكثر حسماً مع الحركة الصهيونية، يطالب بالقطع معها نهائيا، كما يطالب بإعادة النظر بالصهيونية وبطبيعة إسرائيل دولةً تجسّد الفكرة الصهيونية، فقد اعتبر يوري أفنيري، في ذلك الوقت، أنه "مع استقلال إسرائيل، ماتت الحركة الصهيونية ميتة طبيعية، وهي تحيا حياة وهمية تستخدم لجمع المال وتعبئة الرأي العام إلى جانب إسرائيل". ففي ذلك الوقت، لم تعد قضية تبعية الحركة الصهيونية لإسرائيل موقع جدل في إسرائيل، بل تحوّلت القضايا الأساسية والمسلّم بها، التي كانت تنادي بها الحركة الصهيونية، إلى أساس النقاش، بعد أن شعر المجتمع الإسرائيلي بالاستقرار، فقد باتت مسلمات الحركة الصهيونية موضع تساؤل، من نوع هل يشكّل اليهود في العالم أمة واحدة؟ وهل دولة إسرائيل معدّة ليهود العالم أجمعين؟ وهل تشتت اليهود في العالم هو تشتت مؤقت، وسيعودون في نهاية الأمر إلى إسرائيل؟
هذه الأيديولوجيا الصهيونية أصبحت في موقع المراجعة، منذ ذلك الوقت، كتب يوري أفنيري يقول "لسنا صهيونيين: لسنا مع الصهيونيين ولا ضدهم. إننا نرى في الصهيونية حطاماً من الماضي، حركة كبيرة انتهى دورها التاريخي". مع هذا النقاش، أخذ التيار المعارض لصهيونية الدولة في النمو. وأصبح الانفضاض الأيديولوجي من حول الصهيونية يزداد لأسبابٍ مختلفة ومتعدّدة، وصل مع نهاية الثمانينات إلى ما يسمّونه في إسرائيل تيار "المؤرخين الجدد" الذين أعادوا النظر ليس في الادعاءات الصهيونية فحسب، بل وبالرواية الصهيونية الرسمية لتأسيس دولة إسرائيل.
مع مطلع الألفية الجديدة، وجد دعاة إحياء الصهيونية من اليمين الإسرائيلي أنفسهم يعيدون الاعتبار للصهيونية ودعواتها لـ "إسرائيل الكبرى" عبر بوابة "الأمن". وأصبح إحياء الماضي الصهيوني، وجعله واقعاً راهناً من خلال الانزياح الإسرائيلي باتجاه اليمين الذي جعل شخصا يمينيا متطرّفا، مثل بنيامين نتنياهو، يستمر في رئاسة وزراء إسرائيل أكثر من عقد. وسعى هذا اليمين إلى الحصول على وعد بلفور جديد من الإدارة الأميركية، ترافق هذا السعي مع تكثيف الاستيطان في الضفة الغربية ومحيط القدس، حيث بلغ عدد المستوطنين فيها حوالي ثمانمائة ألف مستوطن.
على الرغم من كل المحاولات الإسرائيلية السابقة، للحصول على موافقة دولية، وتحديداً أميركية، 
لم تنجح الجهود في الحصول على قبولٍ كهذا، على الرغم من الانحياز الأميركي لإسرائيل، بقيت الولايات المتحدة تعتبر الأراضي في الضفة الغربية وقطاع غزة أراضي محتلة. وما تم طرحه في المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية هو تبادل أراض بين الطرفين، في حال أرادت إسرائيل ضم أراضٍ من الضفة، وكان الفلسطينيون يقولون تبادل أراض بالقيمة والمساحة نفسيهما. حتى الإدارات الأميركية الجمهورية من رونالد ريغان مرورا بجورج بوش الأب إلى جورج بوش الابن، اعتبرت هذه الأراضي محتلة، وتخضع لقرار مجلس الأمن 242 الذي شكل أساس المفاوضات بين الطرفين منذ مؤتمر برلين.
مع إدارة دونالد ترامب، تم تحطيم الأسس التي بُنيت عليها المفاوضات، بأن حسمت الإدارة الأميركية كل قضايا الحل النهائي من القدس إلى اللاجئين إلى المستوطنات إلى الحدود لصالح إسرائيل، متبنية المطالب اليمينية الإسرائيلية كاملة. حسمت القدس بالاعتراف بها موحّدة عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها، اعتبرت المستوطنات غير مخالفة للقانون الدولي، واللاجئين قضية خارج البحث، رسمت خرائط تعطي لإسرائيل أكثر ما طلبوا في المفاوضات مع الفلسطينيين. في مقابل تشريع الاحتلال والموافقة الفلسطينية على القدس عاصمة إسرائيل، والاعتراف بيهودية الدولة، وخروج قضية اللاجئين من المفاوضات وضم غور الأردن إلى إسرائيل، وكل المستوطنات والطرق الواصلة بينها، وغيرها من جرائم الاحتلال التي حاولت "صفقة القرن تشريعها، يُمنح الفلسطينيون دولةً في ما تبقى من معازل بشرية في الضفة الغربية، مشروطة بحماية الأمن الإسرائيلي.
يحتفل اليمين الإسرائيلي بالانتصار، فهو يعتبر نفسه جلب لإسرائيل كل شيء، ولكن المراقب للصحافة الإسرائيلية يعرف حجم النقد الموجه لـ"صفقة القرن" التي بانحيازها الفج إلى إسرائيل قادرة على إشعال الصراع، وليس الوصول إلى "سلام" كما تدّعي. لم تحطّم "صفقة القرن" أسس المفاوضات التي وضعتها إدارة بوش الأب في مؤتمر مدريد، وتشرّع الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنات فحسب، بل هي في حد ذاتها تفتقر إلى العدالة، وتتناقض مع الشرعية الدولية، وتشكل إهانة لكل عقل بشري، يرى من حق البشر تقرير مصيرهم على أرضهم بعد رحيل الاحتلال.
دلالات
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.