ليس الهدوء وحده ما يلفت الزائر إلى مدينة صلالة العمانية، أو أية مدينة أخرى في السلطنة، بل ما قد يلح عليه، أيضا، رغبة خفية في البحث عن جذور هذه الحساسية المختلفة لهدوء أهل عمان. وإذا ما بدا لكثيرين أن ثمة هوية عمانية خالصة ينبعث منها ذلك الهدوء الجميل، فلن يكون من الغريب أن نجد لذلك الهدوء ما يوازيه في العديد من جوانب الحياة في سلطنة عمان؛ سياسياً واجتماعياً.
في صلالة، والمدن العمانية الأخرى، يمكن للزائر أن يلحظ ملامح واضحة لخط خاص للسلطنة، ظلت تتلمس فيه استقراراً داخليّاً هادئاً، بعيدا عن الاحتفال والدعاية.
الهدوء في حركة المركبات، ذوق السائقين حيال المارة، اللطف الظاهر في معاملات عادية عابرة لأهل المدينة مع المقيمين؛ كلها ملاحظات لا تخطئها عين الزائر في مدينة صلالة.
ربما كانت تلك الملاحظات عابرة وغير كافية، بطبيعة الحال، لتركيب صورة تصنعها عين الزائر عن المدينة، لكن شعورا ما يفرض نفسه على الزائر للخروج بانطباع أقرب إلى الحقيقة، فيما هو يبحث عن شيء مختلف وجميل في سلطنة عمان، خارج الأزمنة العربية الصاخبة.
هدوء بلون الطبيعة
الهدوء هنا، يبدو أقرب إلى الطبيعة، في الحياة والبشر، وفي الوقت ذاته، لا يُخفي إشارات سياسية تستثمر تلك الطبيعة في صناعة هوية واضحة للسلم في الحياة العامة لأهل عمان كلهم، بوصفه علامة ما من علامات الاستقرار المنشود.
تنعكس في صلالة أصداء لتفاعل مريح لا يشوبه توتر، بين الاحتفاظ بطابع تقليدي، ورغبة في حياة معاصرة تمليها الأشكال الحديثة لأنماط الاستهلاك والترفيه.
الأرجح، أيضاً، أن للهدوء العماني جذورا تراثية ناشئة من طبيعة المذهب الإباضي في علاقته التاريخية المتسامحة مع المذاهب الأخرى في السلطنة. فتجربة التعايش النادرة التي تعبر عنها حياة العمانيين بين جميع المذاهب فيها، تجربة تستحق الدراسة، في ظل الانفجارات التي تشهدها المنطقة العربية (وهي للأسف تجربة لم تأخذ حقها من الاهتمام والدرس العربيين).
برسم الهدوء الذي تعيشه مدينة صلالة، لا تتشكل لدى الزائر مشاعر عابرة، بقدر ما يرده ذلك الهدوء إلى حيثيات متعددة في طبقات حياة عمانية انفردت عن بقية دول الخليج بالتاريخ الإمبراطوري، والتجوال البحري للعمانيين في التاريخ بين آسيا وأفريقيا، واللغات السامية الراطنة: (لغتي المهرة والجباليين والحراسيس) على لسان قبائل عربية قُحة، وحتى الزي المختلف الذي يمزج بين العمامة العربية، والطاقية العمانية (الكمَّة) ذات الجذور الأفريقية.
إيقاع الحياة هنا يشبه عزفا منفردا يصغي إلى أصواته الداخلية الهادئة أكثر من أي شيء آخر، سواء في محيط منطقة الخليج، أو المنطقة العربية.
في سلطنة عمان، ربما أمكن للزائر، أيضا، ملاحظة صيغة للتعايش فريدة، غامضة، وبعيدة عن بيئات وحيوات عربية بدت تناقضاتها اليوم أكثر وضوحا في أغلب بلدان العرب؛ فإذ يبدو البلد محافظا على هوية استقراره، وواعيا تلك الهوية، لكنه، في الوقت نفسه، يجسد، عبر ذلك الاستقرار، تماهياً واضحاً مع ترتيبات نظام سلطاني ذي شرعية تاريخية تواطأ فيها التفاعل الإيجابي المتبادل بين الشعب والنظام على تثمين الدور التاريخي للاستقرار والتعايش في ظل حكم السلطان قابوس.
ليس هنا، والحال هذه، ما يردّ الأمر في تلك الصيغة الفريدة للتعايش، إلى تبريرات الجدل النظري الذي يقرأ أحوال البلدان العربية الأخرى ضمن تفسيرات سياسية مسطحة، بقدر ما يتصل الأمر بأسباب تاريخية واجتماعية لبلد لا يزال يرسّخ بهدوء استقراره الخاص في الأزمنة الحديثة.
تنوع طبقات الهوية
تستبطن عُمَان تنوعا فريدا لطبقات هوية مختلفة من محيط علاقاتها التاريخية والإمبراطورية السابقة، ويختزن ذلك التنوع نسيجا متجانسا لتلك الهوية المنفتحة تاريخياً على مجتمعات الجوار الآسيوي والأفريقي، وبالذات منطقة القرن وشرق أفريقيا.
كذلك فإن للهند في عمان بقايا لا تزال منعكسة من أصداء حياة تاريخية ربما أصبحت اليوم طيفا من أطياف الهوية العمانية المتعددة، فالمحيط الهندي، وجوز الهند، الذي تنتشر أشجاره الباسقة على سواحل الجنوب العماني، وأصل العملة العمانية (البيسة) الهندية، وحتى مناخ المحيط الهندي ربما انعكس ــ كرديف جغرافي ــ في ذلك الهدوء الذي تميز به المجتمع العماني، إلى جانب الأسباب التاريخية والاجتماعية الأخرى.
ثمة حكمة واضحة في تشريعات كثيرة تنظم الحياة العامة في السلطنة، وتتوخى الحفاظ على دعائم ذلك الاستقرار؛ ربما دل عليها الخطاب الديني، وهو خطاب عصري، عميق ومعتدل، بحسب ما تدل عليه مواد مجلة " التفاهم " الفصلية الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في عُمان.
الصمت النبيل
قد لا تحتاج سلطنة عمان، اليوم، إلى حكمة عربية جديدة في موازاة المصائر العربية التي تتخلع فيها تجارب الاستقرار في المنطقة، بعد الربيع العربي، والتفكك الذي ضرب تلك الدول؛ لكن أقل ما تحتاجه من أشقائها، في الحقيقة؛ هو الصمت النبيل إزاء تجربتها الصامدة في البحث عن المزيد من العوامل المؤدية إلى ترسيخ استقرارها، بعيدا عن مقاييس" الصواب " السياسي والتنظيري لذهنية الأيديولوجيا العربية.
وفيما استلهم العمانيون من أفريقيا طاقية (الكمَّة) المزركشة، كجزء أصيل من هوية الزي العماني، خلّدوا آثارا فنية باقية في شرق أفريقيا ،خصوصا في " زنجبار " أو " بر الزنج " (بحسب النطق الإنجليزي المقلوب لكلمة " بر الزنج ") حيث لا تزال ، حتى اليوم ، أعذب أطوار الغناء العربي الكلاسيكي وأنماطه التقليدية الأصيلة مثل قالب (الدور) في مدينة زنجبار في تنزانيا (برغم لغته السواحلية)، على ما تشهد الأغنيات الخالدة لمغنية زنجبار الأسطورة، فاطمة بي كيدودا، تلك التي أعادت إنتاج ألحان ومقامات عذبة لمغنية عربية عمانية عُرفت بـ (بنت السَّعدي) عاشت في "زنجبار" وانتشرت أغنياتها الجميلة في سلطنة عمان خلال عشرينيات القرن الماضي.
فلن يغني أحد، أبداً، بمقاماتِ لغةٍ لا يحبها.
في صلالة، والمدن العمانية الأخرى، يمكن للزائر أن يلحظ ملامح واضحة لخط خاص للسلطنة، ظلت تتلمس فيه استقراراً داخليّاً هادئاً، بعيدا عن الاحتفال والدعاية.
الهدوء في حركة المركبات، ذوق السائقين حيال المارة، اللطف الظاهر في معاملات عادية عابرة لأهل المدينة مع المقيمين؛ كلها ملاحظات لا تخطئها عين الزائر في مدينة صلالة.
ربما كانت تلك الملاحظات عابرة وغير كافية، بطبيعة الحال، لتركيب صورة تصنعها عين الزائر عن المدينة، لكن شعورا ما يفرض نفسه على الزائر للخروج بانطباع أقرب إلى الحقيقة، فيما هو يبحث عن شيء مختلف وجميل في سلطنة عمان، خارج الأزمنة العربية الصاخبة.
هدوء بلون الطبيعة
الهدوء هنا، يبدو أقرب إلى الطبيعة، في الحياة والبشر، وفي الوقت ذاته، لا يُخفي إشارات سياسية تستثمر تلك الطبيعة في صناعة هوية واضحة للسلم في الحياة العامة لأهل عمان كلهم، بوصفه علامة ما من علامات الاستقرار المنشود.
تنعكس في صلالة أصداء لتفاعل مريح لا يشوبه توتر، بين الاحتفاظ بطابع تقليدي، ورغبة في حياة معاصرة تمليها الأشكال الحديثة لأنماط الاستهلاك والترفيه.
الأرجح، أيضاً، أن للهدوء العماني جذورا تراثية ناشئة من طبيعة المذهب الإباضي في علاقته التاريخية المتسامحة مع المذاهب الأخرى في السلطنة. فتجربة التعايش النادرة التي تعبر عنها حياة العمانيين بين جميع المذاهب فيها، تجربة تستحق الدراسة، في ظل الانفجارات التي تشهدها المنطقة العربية (وهي للأسف تجربة لم تأخذ حقها من الاهتمام والدرس العربيين).
برسم الهدوء الذي تعيشه مدينة صلالة، لا تتشكل لدى الزائر مشاعر عابرة، بقدر ما يرده ذلك الهدوء إلى حيثيات متعددة في طبقات حياة عمانية انفردت عن بقية دول الخليج بالتاريخ الإمبراطوري، والتجوال البحري للعمانيين في التاريخ بين آسيا وأفريقيا، واللغات السامية الراطنة: (لغتي المهرة والجباليين والحراسيس) على لسان قبائل عربية قُحة، وحتى الزي المختلف الذي يمزج بين العمامة العربية، والطاقية العمانية (الكمَّة) ذات الجذور الأفريقية.
إيقاع الحياة هنا يشبه عزفا منفردا يصغي إلى أصواته الداخلية الهادئة أكثر من أي شيء آخر، سواء في محيط منطقة الخليج، أو المنطقة العربية.
في سلطنة عمان، ربما أمكن للزائر، أيضا، ملاحظة صيغة للتعايش فريدة، غامضة، وبعيدة عن بيئات وحيوات عربية بدت تناقضاتها اليوم أكثر وضوحا في أغلب بلدان العرب؛ فإذ يبدو البلد محافظا على هوية استقراره، وواعيا تلك الهوية، لكنه، في الوقت نفسه، يجسد، عبر ذلك الاستقرار، تماهياً واضحاً مع ترتيبات نظام سلطاني ذي شرعية تاريخية تواطأ فيها التفاعل الإيجابي المتبادل بين الشعب والنظام على تثمين الدور التاريخي للاستقرار والتعايش في ظل حكم السلطان قابوس.
ليس هنا، والحال هذه، ما يردّ الأمر في تلك الصيغة الفريدة للتعايش، إلى تبريرات الجدل النظري الذي يقرأ أحوال البلدان العربية الأخرى ضمن تفسيرات سياسية مسطحة، بقدر ما يتصل الأمر بأسباب تاريخية واجتماعية لبلد لا يزال يرسّخ بهدوء استقراره الخاص في الأزمنة الحديثة.
تنوع طبقات الهوية
تستبطن عُمَان تنوعا فريدا لطبقات هوية مختلفة من محيط علاقاتها التاريخية والإمبراطورية السابقة، ويختزن ذلك التنوع نسيجا متجانسا لتلك الهوية المنفتحة تاريخياً على مجتمعات الجوار الآسيوي والأفريقي، وبالذات منطقة القرن وشرق أفريقيا.
كذلك فإن للهند في عمان بقايا لا تزال منعكسة من أصداء حياة تاريخية ربما أصبحت اليوم طيفا من أطياف الهوية العمانية المتعددة، فالمحيط الهندي، وجوز الهند، الذي تنتشر أشجاره الباسقة على سواحل الجنوب العماني، وأصل العملة العمانية (البيسة) الهندية، وحتى مناخ المحيط الهندي ربما انعكس ــ كرديف جغرافي ــ في ذلك الهدوء الذي تميز به المجتمع العماني، إلى جانب الأسباب التاريخية والاجتماعية الأخرى.
ثمة حكمة واضحة في تشريعات كثيرة تنظم الحياة العامة في السلطنة، وتتوخى الحفاظ على دعائم ذلك الاستقرار؛ ربما دل عليها الخطاب الديني، وهو خطاب عصري، عميق ومعتدل، بحسب ما تدل عليه مواد مجلة " التفاهم " الفصلية الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في عُمان.
الصمت النبيل
قد لا تحتاج سلطنة عمان، اليوم، إلى حكمة عربية جديدة في موازاة المصائر العربية التي تتخلع فيها تجارب الاستقرار في المنطقة، بعد الربيع العربي، والتفكك الذي ضرب تلك الدول؛ لكن أقل ما تحتاجه من أشقائها، في الحقيقة؛ هو الصمت النبيل إزاء تجربتها الصامدة في البحث عن المزيد من العوامل المؤدية إلى ترسيخ استقرارها، بعيدا عن مقاييس" الصواب " السياسي والتنظيري لذهنية الأيديولوجيا العربية.
وفيما استلهم العمانيون من أفريقيا طاقية (الكمَّة) المزركشة، كجزء أصيل من هوية الزي العماني، خلّدوا آثارا فنية باقية في شرق أفريقيا ،خصوصا في " زنجبار " أو " بر الزنج " (بحسب النطق الإنجليزي المقلوب لكلمة " بر الزنج ") حيث لا تزال ، حتى اليوم ، أعذب أطوار الغناء العربي الكلاسيكي وأنماطه التقليدية الأصيلة مثل قالب (الدور) في مدينة زنجبار في تنزانيا (برغم لغته السواحلية)، على ما تشهد الأغنيات الخالدة لمغنية زنجبار الأسطورة، فاطمة بي كيدودا، تلك التي أعادت إنتاج ألحان ومقامات عذبة لمغنية عربية عمانية عُرفت بـ (بنت السَّعدي) عاشت في "زنجبار" وانتشرت أغنياتها الجميلة في سلطنة عمان خلال عشرينيات القرن الماضي.
فلن يغني أحد، أبداً، بمقاماتِ لغةٍ لا يحبها.