يحتلّ عنف الحرب السورية وثقلها المأسوي على المناخ الدرامي والإنساني لـ"فوضى" (2018، 95 دقيقة، حاصل على دعم من "مؤسّسة الدوحة للأفلام" و"الصندوق العربي للفنون والثقافة ـ آفاق" و"بدايات للفنون السمعية البصرية")، الوثائقي الطويل الأول للسورية ساره فتّاحي (1983). لكن المَشَاهد كلّها لن تُقدِّم أيًا من هذا العنف وذاك الثقل المأسوي مباشرة، فالسرد معنيٌّ بما هو أهمّ وأعمق وأخطر من لقطات متداولة عن حربٍ وقتل وتعذيب وبكائيات. "فوضى" ينحو صوب الحساسية الإنسانية البحتة، التي تعيشها شخصيتان نسائيتان سوريتان، تسردان مقتطفات من سيرتيهما الحياتية في سورية وخارجها. حساسية إنسانية معطوفة على جمالية سينمائية تصنع من التوثيق لغة حياة واختبارات، وترتكز على مرويات شفهية تكترث الكاميرا بها فتوثّقها، مستخدمة أجمل توليف وتصوير يُحيلان الجانب المأسوي الخطر إلى بهاء بصري، يقول بالصُوَر والألوان الغامقة وحركة الكاميرا والإضاءة والتوليف، ما تعجز الكلمات عن البوح به، رغم أن الشخصيتين النسائيتين تقولان الكثير بتكثيفٍ كلامي (إحداهما تلتزم الصمت أكثر من الأخرى)، يُضيف على النص البصري جماليات تعبير وسرد.
منذ اللقطات الأولى، تؤكّد ساره فتّاحي ميلاً واضحًا إلى شفافيةِ سردٍ وشعريّته وتأمّلاته، يخرج (السرد) من إطار التأريخ إلى ما يعتمل في ذاتٍ وروح، وفي تمزّقاتهما. رجا، المُهاجرة إلى السويد، تمتلك ملامح كافية لتقول ما يعجز اللسان عن قوله. تقف عند الحدّ الواهي أو المنعدم بين الأداء والتعبير، وتذهب بعيدًا في حمل الثقل المعنوي لقسوة التخبّط بين ماضٍ يرفض الاختفاء، وراهن معلّق بهذا الماضي لكنه يحاول جعل الآنيّ ملاذًا يُطهِّر، ومكانًا تغتسل فيه الذات من أشباحها ومخاوفها وذكرياتها. وهبى، الباقية في دمشق، تظهر أمام الكاميرا بملامح غامضة (إذْ تميل الإضاءة إلى المُعتِم منها كمدخلٍ إلى جوانيّة هبى وعالمها المنغلق عليها)، وتقول بنبرة صوتها وبحّته ما يتنصّل القول المباشر عن الاعتراف به.
عنف الحرب السورية وثقلها متأتيان من تاريخ حافل من التنكيل والتضييق والتهجير والتغييب، ستكون السيدتان السوريتان شاهدتين على فصولٍ منه تتأثّران بنتائجها، أو بيوميات حياتية عابرة. لكن "فوضى" سارة فتّاحي غير راغب في هذا كلّه، لالتقاطه السينمائي ما هو مشترك في المعاناة الإنسانية، المتأتية من حروب تتشابه في العنف والثقل نفسيهما. لذا، تبدو الشخصية النسائية الثالثة (لا اسم لها، تؤدّيها الممثلة النمساوية ياشكا لامّيرت) ـ التي يظهر وجهها لمامًا، فالأهمّ سينمائيًا أن تبقى ملامحها شبه مغيّبة من دون أن تغيب أقوالها وتأمّلاتها ومشاعرها وتجوالها ـ كأنها تواصلٌ بين السوريّتَين، أو كأنها مرآةُ امتداد أجنبيّ لمعاناة عربية، غير مختلفة كثيرًا عن تلك المتأتية من حروب أوروبا وتاريخها الدموي والعنيف. فالشخصية النسائية الثالثة تسعى إلى تأليف نصّ عن سلم لا عن حربٍ، وعن معاناة وتاريخ، فالأهمّ باقٍ في المسافة التي تُقلّصها بين السوريّتَين، وفي المدى الأوسع للوجع المتأصّل في بشرية معقودة على خراب وألم وخوف وارتباك.
في مقابل الرمادي الذي يرافق رجا غالبًا، يبرز الغامق الكثيف في ظلال هبى. لكنّ للمرأتين تمزّقًا ينبع من مقتل قريبٍ حبيبٍ، ومن قلق روحي يُغرق رجا في بحار شاسعة من المواجع والانهيارات، مع أنها (رجا) تلجأ إلى الرسم كخلاص مؤقّت، ويعزل هبى في غرفة ابنها التي تُبقيها مُرتّبة كترتيب ملابسه وأغراضه بانتظار عودة، تُدرك استحالتها. وإذْ تحاصر رجا نفسها بين منزل ورسومات وذكريات مشفى عصبيّ وكوابيس وأدوية، فإن هبى تعزل نفسها كلّيًا داخل بيتها وذاكرتها الخاصة، وفي أشياء تعكس صُورًا خفيّة لغائبٍ تراه هي وحدها.
أما المرأة المتجوّلة في فيينا، فمعنيّةٌ بنص ترغب في جعله مرآة فرد يحاول إيجاد منفذ له من خراب الجحيم وفوضى الحياة. تُدرك أن الكتابة عن السلم أصعب وأعقد ("الكتابة عن الحرب سهلة للغاية بالنسبة إليّ"، تقول بنبرة مُثقلة بضيقٍ وسعي إلى نص ينتشلها من ارتباكاتها، مشيرة في الوقت نفسه إلى رغبتها في الكتابة عن السلم). تذهب بعيدًا في البحث عن مفاتيح تتيح الدخول إلى عوالم دقيقة في النفس والروح. تزور متحفًا يعرض لوحات لكارافاجيو، فإذا بالكاميرا (تصوير ساره فتّاحي) ترافقها في جولتها المحاذية لعنف اللوحات وموقعه (العنف) في الإنسان. تسير على قدميها في أزقّة وبين عمارات وداخل أنفاق المترو، كأنها تُنقِّب عن مفردات الانفصام/ التكامل بين ثقل الحكايات وتمزّق الراهن وعبثية الخروج من المياه، التي تحثّ برودتها ـ بل صقيعها ـ رجا على الخروج من كوابيسها. المياه نفسها مشترك بين السورِيَتين بالمأساة والألم، فالموت فيه لا بسببه (الجثث مرمية في نهرٍ)، والاغتسال عبره خطوة نحو مصالحة مؤجّلة مع الذات، ومعطّلة مع الآخر، فالآخر فاعل مُصيبة وقاتل حبيبين، والفعل والقتل يحولان دون تواصل طالما أن الاعتراف مُغيَّب والغفران مفقود.
في العوالم النسائية الثلاثة تلك، تنهمك ساره فتّاحي في إيجاد منافذ لبوحٍ، يُفترض به أن ينفتح على كلّ شيء. تستخدم لقطات قريبة بألوان مائلة إلى العتمة، وتكاد تلتصق بالشخصية أحيانًا، فكلام الشخصية أهمّ من ظهورٍ مباشر. أسئلتها قليلة للغاية، ومحصورة برجا المقيمة في السويد، بينما تبدو مع هبى كأنها على مسافة أكبر فتضع الكاميرا في حوار مباشر معها. أما الكاتبة الأجنبية، فعالمها ممتدّ بين تأمّلات في الكتابة والمنافي كجالسٍ أمام طبيب نفسيّ، وأمكنة تتيح لها رؤية أخرى لما يعتمل فيها من ارتباك وقلق ورغبات.