الأطوار التي مرّت بها الوطنية المصرية تشير في ما تشير إلى أن أحد ثوابتها هو الاستخدام متعدّد الأغراض لمسمّى "الشعب" من قبل النخبة المصرية في تعدّد ممثّليها وتاريخها، من الملكية إلى الجمهورية وحتى راهنها الحالي.
ذلك بعض مما يمكن استخلاصه من محاضرة "فوق الجميع: المتغيّر والثابت في الخطاب الوطني السائد" للباحثة في علم الاجتماع ريم نجيب، والتي عُقدت في "مركز الصورة المعاصرة" في القاهرة في إطار الفصل الرابع والأخير من مشروع "لو لم يكن هذا الجدار" الذي دام على مدار عامين.
في ما يشبه مسحاً تاريخياً متقافزاً بين محطات رئيسية في التاريخ المصري وتحليلاً لمعاني الوطنية، اختارت نجيب بداية الانطلاق من تحديد اصطلاحي لمفهومَي الوطنية والقومية، إذ ورغم تأكيدها على تباينات يبديها بعض الباحثين بين كلا المفهومين، إلا أنها قرّرت في محاضرتها تفادياً لأية مساجلات مطوّلة اعتبارهما يشيران لمعنى واحد أو معانٍ تترتب على بعضها، تقول: "نتحدث تاريخياً عن أمة ما تمارس سيطرة على مساحة محدّدة من الأرض، وهذا الظهور لمعنى القومية برز بعد الثورة الصناعية حيث الدولة البيروقراطية ذات القوانين المكتوبة".
نجيب لم تفتها الإشارة إلى الأساطير التي برزت مصاحبة لنشوء الدولة القومية في ما أسمته "حديث القومية عن نفسها"، وهي الأساطير التي لم تسلم منها الوطنية المصرية عبر تاريخها، بل أضافت إليها مقولاتها الخاصة حيث "مصر أول دولة مركزية في العالم، وهي فجر التاريخ".
تسائل المحاضرة هذه الأساطير باعتبارها قد ترسّخ لعنصرية ما تنبني على ابتداع مفهوم السلالة الواحدة والرابط البيولوجي، تقول: "الحدود تتغير، كما أنها لم تكن تحكم عملية التزاوج".
لكن الوطنية المصرية كانت لها دفاعاتها الكثيرة عن مفهوم التجانس العضوي، برز بعضها بالاتكاء على الجغرافيا، وفي هذا الأمر ظهرت كتابات كثيرة لعل أشهرها "شخصية مصر" للمفكر الجغرافي جمال حمدان، وفي حين أن نجيب لم تشر لحمدان ولا لغيره، لكن أطروحته بقيت حاضرة في حديثها عبر القول "البعض يحاجج بفرض الجغرافيا لشخصية معينة، وبكوننا نعيش على ضفاف النيل، وهنا سنتساءل: عند أي قطاع جغرافي يمكن لضفاف النيل أن تنتهي؟ ثم ماذا عمّن لا يعيشون على ضفاف النيل؟!".
شخصية مصر التي تحدّث عنها جمال حمدان تشير إلى تجانس ثقافي عام خلقته الجغرافيا إضافة إلى عوامل أخرى، لكن ريم نجيب تقول إن هذه الثقافة المنسجمة في حقيقة الأمر صناعة ونتيجة الدولة القومية لا العكس، تضيف "يمكن إذن تعريف القومية باعتبارها الهيمنة الثقافية أو الثقافة المهيمنة"، وتتساءل "ذلك الفرد الذي تقوده الدولة للدفاع عن جزء من الأرض لم يره وربما لن يراه في حياته، ليس إلا نتيجة لصناعة ثقافية".
عبر صناعة معنى الوطن والوطنية خاضت نجيب في الجزء الأكبر من محاضرتها في أضابير التاريخ، باستنطاق الأرشيفات الرسمية وغير الرسمية عبر بعض المجلات والأشرطة السينمائية المصرية في القرن العشرين من أوله لنهايته.
المثير أنه ومنذ ثورة 1919 وصولاً إلى راهن الجمهورية المصرية كانت للنخبة مصالحها التي تحاول أن تطرحها باعتبارها مصالح كل فئات الشعب، حتى في أمر خطير كمسألة الاستقلال عن المحتل البريطاني فإن نخبة 1919 ممثلة في سعد زغلول وأصحابه قادت ذلك النضال ضمن ما يمكن تسميته الآن "مطالب فئوية" لتصهرهها جميعها في مطلب وحيد يخصّ وضع دستور للبلاد.
عدّدت نجيب الفئات المختلفة الثائرة في 1919 ما بين طبقة النخبة، والأفندية أصحاب الوظائف، والبرجوازية الصغيرة من أرباب الزراعة، ثم العمال والفلاحين، وأخيراً الطلاب.
كانت لكل فئة مصالحها الخاصة ودوافعها للحركة، ومنه تحولت المظاهرات إلى صدامات مع الشرطة والإنكليز، فبرزت النخبة كعادتها محاولة تهدئة الأجواء، وأنشئت من أجل ذلك- تقول نجيب- ما سمّي حينها "لجان تهدئة الخواطر" من الأعيان والوجهاء على مستوى القطر المصري لامتصاص طاقة الغضب تلك، ودبّجت مناشدات تقول بتحريم الشرائع السماوية والوضعية لأعمال الشغب.
في الثلاثينيات، توسّعت قليلاً طبقة الأفندية بحيث برزت باعتبارها النخبة الجديدة المزاحمة لطبقة الباشاوات، تقول نجيب "يمكن هنا اعتبار تنظيم الضباط الأحرار ابن هذه الطبقة المتعلّمة وممثل بعض أفكارها في ما بعد".
كانت تنظيرات هذه النخبة تدور حول تمصير الاقتصاد باعتباره مناط الاستقلال، كما بدأت تضيق بفكرة التعددية الحزبية باعتبار الأحزاب لا تمثل إلا طبقة ملّاك الأراضي. ويلاحظ هنا ذلك التأثير الذي أشارت إليه المحاضِرة في ما طبع تجربة ضباط يوليو منذ بداياتها في إلغائهم للأحزاب باعتبارها تمثيلاً لطبقة رجعية من أعوان الملك ونظامه.
بالوصول إلى حركة يوليو 52، فإن الوطنية المصرية اتخذت منعطفاً شاملاً، تقول: "قدّم الجيش نفسه باعتباره صاحب شرعية التحرير وشرعية الإنجاز، كما وأنه فوق المطامع والأهواء، وليست لديه مصلحة شخصية على خلاف كل النخب السابقة على حركة يوليو"، ويمكننا هنا أن نلمح تأسيسا ميتافيزيقياً لتلك الوطنية التي كوّنها الضباط وباشروها بالعناية، باعتبارها متجاوزة وفوقية.
وفي محاولة لجمع خصائص الوطنية في عهد عبد الناصر، أشارت نجيب عبر استعراضها لبعض الأغاني التي عرفت بـ"الأغاني الوطنية" (منها مثلاً أغنية "الجيل الصاعد" التي أداها مجموعة من الفنانين بقيادة محمد عبد الوهاب) لاستخدام واضح لروابط الدم والعائلة في تعميق الشعور القومي، وليس معنى المشاركة أو المواطنة، أضافت أيضاً "تأسيس العلاقة بين الشعب والسلطة في هذه الفترة قام بنزع السياسة عنها، واعتمد بدلاً منها مفردات الحب والزواج والأخوة، وفي المحصلة قام بتأنيث الشعب، تحت مظلة من هيمنة تامة لمفردات عسكرية تصبغ هذه العلاقة والحياة بكاملها".
جرت هندسة جديدة لمفهوم الشعب بحيث يتحول فيها المواطنون لجنود، وتصير أغنية "والله زمان يا سلاحي" هي النشيد الوطني المصري في الفترة بين عامي 1961 إلى 1971، ومن هنا جاءت هزيمة 1967 باعتبارها هزيمة بلا مسؤول سياسي طالما الشعب كله ليس إلا مجموعة من الجنود.
وفي ما تلا الهزيمة من المظاهرات الرافضة لتنحي ناصر تتكئ نجيب على تحليل الأكاديمي شريف يونس عبر ما طرحه في كتابيه "الزحف المقدس، مظاهرات التنحي وتشكل عبادة ناصر" وكذا "نداء الشعب، نقد الأيديولوجيا الناصرية"، تقول "مظاهرات رفض التنحي لم تكن عفوية بالمعنى الصريح للكلمة، لقد تشكلت مقدماتها قبل زمن بربط الخلاص بالزعامة بالفرد في شخص ناصر". وتضيف "لقد غنى عبد الوهاب لناصر في عام 1954 "من غير وجودك ملناش وجود!".
بيد أن هذه الهندسة لمعاني الوطنية لم تنته، ويبدو أنها في راهنها ما بعد 30 يونيو 2013 تتخذ منحى جديداً، منحى تصفه نجيب بالقول "أضحت مصر في التفسير الوطني الجديد شيئاً غير شعبها، شيئاً أعلى وخالدًا، كأنه لا شعب في الحقيقة!".
إنها طبعة جديدة من الوطنية المصرية، وطنية تصبح فيها مصر ما بعد 30 يونيو هي الميتافيزيقا ذاتها، متعالية ومتجاوزة ومجردة، باعتبارها إلهاً لا يراه أحد، إنها مرة أخرى فوق الجميع كما يردّد مؤسّسو هذه الوطنية، لكن المفاجأة أن لا جميع هنا هذه المرة لأنه بحسب هذه النسخة من الوطنية لا يوجد شعب، إنما مصر وفقط!
الميتافيزيقا ذاتها
لم تنته "هندسة" معاني الوطنية، ويبدو أنها في راهنها ما بعد 30 يونيو 2013 تتخذ منحى جديداً، منحى تصفه نجيب بالقول: "أضحت مصر في التفسير الوطني الجديد شيئاً غير شعبها، شيئاً أعلى وخالدًا، كأنه لا شعب في الحقيقة!". إنها طبعة جديدة من الوطنية المصرية، وطنية تصبح فيها مصر ما بعد 30 يونيو هي الميتافيزيقا ذاتها، متعالية ومتجاوزة ومجردة، باعتبارها إلهاً لا يراه أحد، إنها مرة أخرى فوق الجميع.